تحلّ علينا الذكرى 27 لأبشع أحداث الحرب البوسنية، وهي مذبحة سربرنيتسا. ويسعى مناضهو الجرائم النكراء المرتكَبة بتلك المذبحة لتخليد ذكرى شهدائها وضحاياها، وذلك في فاعليات تُنظَّم حول العالم إبان ذكرى المذبحة بين 11 و22 يوليو/تموز من كل عام.
وعلى هذا المنوال يُحيى البوشناق المقيمون بكوسوفو ذكرى مذبحة سربرنيتسا من خلال فاعليات ومسيرات عديدة. تشهد مدينة بريزرن جنوب شرقي البلاد أكبر المسيرات، حيث الوجود البوشناقي الكثيف. تلك المدينة ذات الطابع التركي العثماني أيضاً، التي تتمتع بتنوُّع ثقافي وعرقي وإثنى، مما يُضفِي طابعاً ثرياً على تلك المدينة وعلى الفاعليات المنظمة فيها.
إن سرت في شوارع وأزقَّة كوسوفو، فسرعان ما سيخيَّل إليك أنك ضللت الطريق إلى أراضٍ تابعة لجمهورية ألبانيا، حيث ينتشر العلم الألباني بكثافة تضاهي بل وتتجاوز في كثير من الأحيان انتشار علم كوسوفا نفسه، إلا أن هذا لا يمنع الأغلبية الألبانية أن تساهم في فاعليات إحياء ذكرى سربرنيتسا.
على من يُطلق "البوشناق"؟
لا ينحصر مصطلح البوشناق في وصف جنسية بعينها، بل هو عرق ينتشر في عديد من الدول، تقع أغلبها في منطقة البلقان شرقي أوروبا. يشمل تعريف البوشناق مسلمي البوسنة والهرسك وجوارهما، إضافة إلى المسلمين الناطقين باللغة البوسنية في كوسوفو، ومقدونيا، والجبل الأسود، وحتى داخل صربيا نفسها حيث أغلبية بوشناقية مسلمة في إقليم "السنجق" الواقع بين منطقتي كوسوفو والجبل الأسود، ولا يزال السنجق تابعاً لصربيا حتى اليوم مع أن سكانه المسلمين يقدرون بنحو 87% من إجمالي سكان الإقليم.
المصطلح إذاً ليس له بُعد عرقي بشكل حصري، بل يتمركز الأمر حول الديانة، فإن كان الشخص الناطق بالبوسنية مسلماً، عندها يطلق عليه بوشناق.
يشار إلى أن كوسوفو ذات أغلبية ألبانية ساحقة تفوق 90%، والألبان عادةً ذوو أغلبية مسلمة، ويعيش الألبان إلى جانب بضع الأقليات والمجموعات الإثنية الأخرى، أهمها البوشناق والأتراك المسلمون والصرب المسيحيون. إلا أن الهوية الألبانية طاغية على الثقافة الكوسوفية، في محاولة منهم لإبراز هوية طُمِست إبان الحكم اليوغسلافي الذي كان يسعى لفرض اللغة الصربية كلغة موحدة لكل أقاليمه.
وجاء إعلان استقلال كوسوفو عن صربيا رسمياً بقرار جرى تبنِّيه في جلسة برلمانية خاصة التأمت في 17 فبراير/شباط 2008. لكن بلغراد ما زالت تعتبرها جزءاً من أراضيها، وتدعم أقلية صربية مسيحية تعيش في كوسوفو.
عن أيام الحرب: كنا بين المطرقة والسندان
امتدت الحرب في البلقان إلى ما يقارب عَقداً كاملاً، حاولت فيها القوات الفيدرالية اليوغسلافية أن توقف انفراط عِقد "اتحاد دول البلقان" تحت رابطة الاتحاد اليوغسلافي الاشتراكي، التي طالما حافظت عليها بلغراد باليد الحديدية والقمع. لكن مع وفاة الزعيم اليوغسلافي صاحب النفوذ القوي جوزيف بروز تيتو عام 1980، وتلاه انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 وانهيار المعسكر الاشتراكي الشرقي، باتت بلغراد في مأزق وباتت طبول الحرب تُدَقّ، مع توقعات بأن لا يفرّط الصرب في سيطرتهم على الوحدة اليوغسلافية، وأن يبذلوا الغالي والنفيس من أجل هدفهم.
وفي كوسوفو اشتدّت أيام الحرب والتهجير في نهاية العقد الأخير من الألفية الثانية، إذ راحت القوات اليوغسلافية تجوب شوارع كوسوفو ولعام كامل قتلاً وتشريداً لمئات الآلاف من سكانها.
تلك الحرب "المقدسة" التي لطالما نظر إليها القادة الصرب وآخرهم سلوبودان ميلوسيفيتش، الذي لم يتورّع أن يذكر علناً سعيه لينتقم من انتصار المسلمين العثمانيين في معركة كوسوفو قبل 600 عام، التي لقى فيها الجيش الصربي بأساً شديداً وهزيمة نكراء على يد الجيوش العثمانية الباسلة بقيادة السلطان مراد الأول. وبطبيعة الحال أضفى هذا البعد مركزية كبيرة للعامل الديني في أثناء الحرب الأخيرة في التسعينييات.
في حديث مع TRT عربي قالت س.د، وهي من بوشناق كوسوفو الفارّين من الحرب أواخر التسعينيات: "كنت طفلةً، عانينا الأمرّين، تحدث مع من شئت من بوشناق كوسوفو سيقولون لك نفس الشيء: إبان الحرب البلقانية كنا بين المطرقة والسندان، فنحن أكثر من عانى اضهاداً خلال الحرب".
وأضافت: "الصرب يُقِرّون بقتلنا لأننا مسلمون، والألبان الكوسوفيون من ضمنهم مَن جاورنا في نفس الحيّ لمئات السنين يضطهدوننا لأننا «سلاف» نشارك الصرب نفس اللغة، فيخبرون عنا المقاتلين الألبان الذين جاؤوا لنصرة أهل كوسوفو، مدّعين خيانتنا لهم وتواصلنا مع الصرب سراً". "بكل أسف أقولها، ما زال الاضطهاد والتهميش مستمراً لنا".
وتقول س.د إنها اضطُرّت وعائلتها إلى "الفرار من هذا الموقف البشع، وزوّرنا وثائق سفر كرواتية لنستعين بها في أثناء عبورنا الحدود إلى أوروبا. عند عبرونا أحد الحواجز الأمنية في منطقة صربية كان أخي الصغير نائماً، ولبثنا ساعات ندعو الله أن لا يستيقظ فيتفوه بكلمة تُظهِر هُويتنا الحقيقية تضعنا أمام زناد بنادق الصرب".
وكانت القوات الصربية بقيادة راتكو ميلاديتش، دخلت سربرنيتسا في 11 يوليو/تموز 1995، بعد إعلانها منطقة آمنة من قبل الأمم المتحدة.
وارتكبت القوات الصربية خلال أيام، مجزرة جماعية راح ضحيتها أكثر من 8 آلاف بوسني، تراوحت أعمارهم بين 7 إلى 70 عامًا، وذلك بعدما سلمت القوات الهولندية العاملة هناك عشرات الآلاف من البوسنيين إلى القوات الصربية.