ناجٍ من أكبر مجازر الاحتلال في شمال غزة يروي أهوالها لـTRT عربي / صورة: AA (AA)
تابعنا

فتح محمد عينيه اللتين بالكاد أراحهما لدقائق ليجد آثار القصف من حجارة وركام في كل زاوية بشقته الموجودة بالطابق الأرضي، وفي محاولة للنجاة بصغاره هرع نحو الباب آملاً استباق الحجارة التي قد تحاصره ودافعاً الباب، هرولت الزوجة والأطفال نحو شقة أحد أبناء عمومته، بينما هرول محمد لعند أحد الجيران.

وخلال ثوانٍ وبين صوت المدافع تهدم درج المبنى المكون من 5 طوابق ما منع حركة النزول والصعود، وشكّل سداً بين محمد و نحو 250 شخصاً، هم أفراد عائلته "أبو نصر" قاطنو المبنى، الذين أصبح مصيرهم مجهولاً أو بالأحرى محصوراً باحتمالية وحيدة.

في الرابعة وخمس دقائق فجر اليوم التالي، باتت تلك الاحتمالية الوحيدة مؤكدة، إذ لم تفارق الطائرة المسيرة القناصة "كابتر" محيط المبنى وازدادت مدفعيات الاحتلال عنفاً، ومن دون سابق إنذار انهار المبنى بشكل كامل، وكذلك الأمل في نجاة أحد من أفراد عائلته.

وعقب الصمت الذي تلا العاصفة، خرج محمد من بيت الجيران في حالة من الذهول ليتفقد أهله، ليجد أن المبنى الذي عاش فيه لـ32 عاماً بات جزءاً من تراب الأرض ولم يظهر منه سوى الجثث والأشلاء والدماء التي كانت تنتشر في كل مكان.

130 شهيداً دفنهم بيده

خرج محمد مذهولاً ينادي الجيران والأصحاب محاولاً الاتصال بالدفاع المدني والإسعاف الذين لم يستطيعوا القدوم لأن جيش الاحتلال لا يسمح لهم بأداء عملهم الإنساني، بالإضافة لاستهدافهم في محافظة شمال غزة. ووسط جبال من الركام والحجارة وبمعاول ضعيفة، ظلَّ محمد يكسر ويحفر مع جيرانه بين الأنقاض آملاً أن يجد حياً من عائلته.

وروى محمد لـTRT عربي، أن الأولوية لهم كانت إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأحياء، واستطاعوا إخراج 20 مصاباً من بينهم نساء وأطفال على عربات تجرها الحمير إلى مستشفى كمال عدوان الذي بدوره خرج من الخدمة قبل أيام إثر اقتحامه من جيش الاحتلال الإسرائيلي وتخريبه.

بعد إنقاذ من استطاعوا التفتوا لجمع الجثث والأشلاء التي كانت متفرقة في الشوارع بين القطع الإسمنتية، وأخرجوا نحو 130 شهيداً بينهم 25 طفلاً، بينما بقي أكثر من 100 مفقود تحت الأنقاض لم يستطع الوصول إليهم، وفي أثناء كل هذه العملية كانت المسيرات القناصة للاحتلال تحلق حولهم وتضربهم المدفعية.

ولعدم إمكانية الوصول إلى مقابر العائلة دفن محمد بيديه 130 فرداً من عائلته، بينهم والداه وجميع إخوته إضافة إلى أعمامه وأبنائهم وزوجاتهم بلا أكفان سوى قطع من القماش في سوق المنطقة الذي تحول إلى مقابر جماعية، بعدما عجزت المستشفيات التي دمرها الاحتلال عن تلبية حاجاتهم.

طلب محمد من زوجة ابن عمه عند تكفين الشهيد كتابة اسمه على القماش، إضافة إلى تسجيل اسمه في دفتر منفصل، وكذلك تسجيل المصابين والمفقودين وحتى الناجين، كي تبقى مجزرة أبو نصر التي أباد فيها الاحتلال عائلة كاملة مكونة من عشرات الأفراد في الذاكرة الفلسطينية.

وشارك محمد الورقة التي بها أسماء شهداء عائلته على مواقع التواصل الاجتماعي معلقاً: "هؤلاء ليسوا أرقاماً، هؤلاء شهداء عائلتي، كل واحد كان عنده حياة وقصة وحلم"، مذكراً العالم الصامت أن خلف كل رقم، كانت حياة كاملة لإنسان، أنهاها الاحتلال في طرفة عين.

من يتمسك ببيته يُقتل

وإثر مجزرة أبو نصر والمجازر التي تزامنت معها، قال الناطق باسم جهاز "الدفاع المدني" محمود بصل في تصريحات، إن "الاحتلال يركز على استهداف المنازل المكتظة بالسكان في شمال قطاع غزة".

وأضاف أن مناشدات دائمة تصلهم من العائلات عن "وجود شهداء ومصابين تحت ركام المنازل المدمرة، وخاصة في منطقة بيت لاهيا التي زاد استهدافها خلال الأيام الماضية".

وأوضح محمود بصل أنهم لا يتمكنون من فعل أي شيء إزاء ما يصلهم من مناشدات، في ظل تعطل عملهم بشكل كامل في المنطقة جراء الاستهداف الإسرائيلي.

وناشد "المؤسسات والمنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية بالتدخل العاجل للسماح بوصول طواقم الدفاع المدني إلى مناطق وجود المصابين والشهداء لانتشالهم بأسرع وقت".

وأشار إلى أن جميع العائلات في محافظة شمال غزة تعيش "تجربة الموت والإبادة بصمت بعد أن غابت منظومة العمل الصحي هناك بفعل استهدافات الاحتلال".

من جانبه قال مدير "مستشفى كمال عدوان" شمال قطاع غزة حسام أبو صفية، الاثنين الماضي، في تصريحات، إن جيش الاحتلال الإسرائيلي مسح عائلات فلسطينية بأكملها، ودأب على استهداف المستشفى بشكل مكثف، واصفاً المشهد بأنه "شهيد يودع شهيداً".

وعلى مدار أسابيع يحاصر جيش الاحتلال الإسرائيلي مئات العائلات في شمال قطاع غزة داخل المنازل والمدارس ومراكز الإيواء ويجبر الموجودين فيها على النزوح قسراً تحت زخات الرصاص وتهديد السلاح.

وكشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عن نمط متكرر من الهجمات العشوائية على المدنيين في شمال قطاع غزة، إذ تستهدف قوات الاحتلال الإسرائيلي المناطق السكنية والمستشفيات والمدارس من دون تمييز.

وأشارت الصحيفة في تقريرها إلى مجزرة أبو نصر موضحة أن الاحتلال استهدف مبنى سكنياً من خمسة طوابق مكتظاً بالناس، بحجة رصد مقاتل على سطحه، في تجاهل تام لوجود عشرات العائلات النائمة داخله.

وفي 5 أكتوبر/تشرين الأول الماضي اجتاح جيش الاحتلال الإسرائيلي شمال قطاع غزة بذريعة "منع حركة حماس من استعادة قوتها في المنطقة"، وخلّف منذ 50 يوماً، أكثر من 2000 شهيد فلسطيني وأكثر من 6 آلاف جريح، ودماراً في الأبنية، وسط تهجير السكان، تحت وطأة قصف دموي متواصل وحصار مشدد يمنع إدخال الغذاء والماء والأدوية.

وبدعم أمريكي يرتكب الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بغزة، خلفت نحو 148 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة أودت بحياة عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.

TRT عربي
الأكثر تداولاً