اندلعت الحرب في الشرق الأوسط من دون سابق إنذار، وخلافاً للإرْهاصات الواضحة التي سبقت حرب روسيا وأوكرانيا، كانت الحرب على غزة مفاجئة للجميع.
وتلَا ذلك تهافُت غير مسبوق من دول الغرب للوقوف إلى جانب إسرائيل والدفاع عنها والانحياز لها علانيةً.
تأثير في السياسة
منذ اليوم الأول للحرب على غزة، تعالت أصوات السياسيّين الأوروبيّين تنديداً بعملية طوفان الأقصى التي شنّتها كتائب القسام يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ووقفت أوروبا خلف إسرائيل و"حقّها في الدفاع عن نفسها"، لكنّ الشوارع الأوروبية انقسمت على الفور، فظهر الخلاف واضحاً بين ما تدعمه السياسات وما تؤيده أصوات الشعوب.
وفي ظل استمرار مدة الحرب، "بدأت الانقسامات في الرأي الرسمي الأوروبي تظهر وتتعمق أكثر "وفق حسن حسين، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية.
ويقول حسين لـTRT عربي، إنه "صار واضحاً أن هناك عدم اتفاق في الوسط الأوروبيّ بخصوص الدعم الكامل لإسرائيل، وكذا داخل المفوضية الأوروبية، وسيظهر جلياً في الانتخابات التشريعية القادمة، إذ سنرى تقدماً للأحزاب اليمينية المتطرفة وأحزاب اليسار".
بدوره يرى هنري ستيردينياك، الخبير الاقتصادي في المرصد الفرنسي للظرفية الاقتصادية في باريس، الرأي نفسه.
ويبيّن ستيردينياك في حديثه مع TRT عربي أن "هناك تأثيراً واضحاً لهذه الحرب في المستوى السياسي في أوروبا، والمتمثل أساساً في انتعاش الأحزاب اليمينية المتطرفة وسيطرة خطابها على المشهد، وهو ما حصل فعلياً في هولندا بفوز الحزب اليميني بأغلبية الأصوات".
ولعلّ من أسباب إرخاء حرب غزة بظلالها على أوروبا سياسياً، الرأي الذي فرضته الحكومات على المواطنين بموقفها المؤيّد لإسرائيل من دون قيد أو شرط.
هذه السياسات يراها حسن حسين "موقفاً خطيراً جداً، وخاصة في بلد مثل ألمانيا، لأنها كأنَّما أوقفت بذلك العمل بمبدأ حرية الرأي والتعبير، فالآن في ألمانيا أيُّ نقد لإسرائيل يعتبر معاداةً للسامية، وهناك تبنٍّ للبروباغندا الإسرائيلية إعلامياً، وهذا لا يجوز".
ويضيف حسين أن الموقف الألماني شبيه بمواقف العديد من البلدان الأوروبية، وقد أدى إلى انقسام حاد في المجتمع، ما جعل "الجاليات من خلفية عربية ومسلمة، والمهاجرين واللاجئين في ألمانيا يشعرون بأنهم مستهدفون ومستضعَفون، وأنَّ رأيهم مهمَّش بسبب الخطابات السائدة، وهذا أمر مرفوض قانونياً ودستورياً، وله انعكاسات سلبية".
سلاح التصويت العقابي
تناسلت التصريحات السياسية المحذّرة للمسلمين في أوروبا منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، والمتوعّدة لمن تصفهم بـ"الإسلاميين" في أوروبا.
وعلى سبيل المثال، هناك تصريحات وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر، التي شنَّت حملة غير مسبوقة في ألمانيا استهدفت "المركز الإسلامي في هامبورغ"، و5 مجموعات تابعة له، وطالت عملياتها 54 موقعاً منتشراً في مناطق مختلفة بألمانيا.
وقد اعتبرت الوزيرة في بلاغ يبرّر إجراءاتها، صدر يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني، أنه "في الوقت الذي يشعر الكثير من اليهود بالتهديد، لن تتسامح ألمانيا مع الدعاية الإسلامية أو التحريض المعادي للسامية وإسرائيل".
وليست وزيرة الداخلية الألمانية إلَّا نموذجاً عن عديد من السياسيين في كل البلدان الأوروبية، الذين سارعوا لتوعُّد الإسلاميين في أوروبا، والتحرك ضدّ مواطنين مسلمين عبَّروا عن آرائهم حول الموضوع، سواء في الشارع العام خلال التظاهرات المساندة لفلسطين، أم من خلال منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، لتلحقهم اعتقالات ومحاسبة.
ويرى حسين، أن التوقعات بخصوص الانتخابات في هذه الدول تتجه نحو اتجاهين، معتبراً أن "الاتجاه الأول هو العزوف عن الانتخابات ومقاطعتها تماماً، أما الاتّجاه الثاني فسيكون منح الأصوات للأحزَاب المؤيّدة للقضية الفلسطينية، والرّافضة للحرب في غزة".
لكنّ الخبير في الشؤون الأوروبية يرجح أنّ "الأحزاب اليمينيّة ستتفوق؛ لأن الجاليات العربية ستتّجه أكثر نحو التصويت العقابي وتعزف عن المشاركة".
انعكاس على الاقتصاد الأوروبي
سبقَ للحرب الروسية الأوكرانية أن تسببت برجّة اقتصادية في أوروبا، بل أثّرت في الاقتصاد العالمي.
لكن هنري ستيردينياك يعتقد أن الحرب الحالية لن يكون لها تأثير كبير، موضحاً أنه "إلى حدود الساعة لم تظهر أي انعكاسات على أثمان مواد الطاقة في الدول الأوروبية، لكن هناك هواجس وتخوّفات من الوضع غير المستقر اقتصادياً، وأيضاً حول الاستثمارات في المنطقة".
وحول مدى تأثير حملات مقاطعة البضائع الإسرائيلية أو سلع الدول الداعمة لإسرائيل في الاقتصاد، يقول ستيردينياك إنه "لم تُحدِث هذه الحملات يوماً فرقاً فعلياً، وخاصة المقاطعة من العالم العربي والإسلامي، فهي ليست الأسواق ذات الأولوية"، موضحاً أن "كثيراً من المنتجات لا يعرف المستهلك أصلاً أنها مصنَّعة في إسرائيل ويستهلكها يومياً".
وكان من مخلفات الحرب الروسية على أوكرانيا، أزمة الطاقة التي تأثَّرت بها أوروبا أكثر من غيرها، وخاصة في فصل الشتاء، لكن القرب الجغرافي لروسيا من دول الاتحاد الأوروبي وتوريدها لكثير منهم مثل ألمانيا، كان العامل الأساسي في أزمة الطاقة التي شهدتها هذه البلدان.
وذلك يجعل ستيردينياك يرى أنه "ليس هناك أي تأثير لهذه الحرب في ما هو متعلق بالطاقات في أوروبا، فطبيعة الدول التي تشهد حرباً اليوم أي فلسطين وإسرائيل لا تؤثر في هذا المجال بتاتاً".
ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن "الدول العربية التي تمتلك مصادر الطاقة فعلياً، لم تناصر فلسطين أو تتخذ قرار عدم تصدير موارد الطاقة إلى البلدان الأوروبية التي تدعم إسرائيل"، مبيناً أن "أوروبا كانت ستعيش سيناريو آخر لو كانت هذه الدول قد اختارت دعم فلسطين بهذه الطريقة، لكن هذا ما لا نراه اليوم".
من جهته، يوضح حسن حسين أن "قضية الطاقة حُلَّت بشكل كبير عبر التوجه لاختيارات توفير الغاز السائل واستعمال الهيدروجين، لذلك قضية الطاقة لن تكون محوراً أساسياً حين التفكير في حرب الشرق الأوسط".
ويعتقد أن "الدول العربية والإسلامية تبتعد عن اللعب بورقة الطاقات حالياً، لكن إذا ظهرت حقائق جديدة عن الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة، فستكون هناك رجّة كبيرة".
وفي حين اختارت الولايات المتحدة الأمريكية أن يكون دعمها اللامشروط لإسرائيل معنوياً ومادياً، نأت الدول الأوروبية عن هذا التوجه.
ويرى ستيردينياك، أن هذا الاختيار سيمتدُّ عبر الزمن؛ لأن "الدول الأوروبية انخرطت في وقت سابق بدعم أوكرانيا، وهو اختيار أنهكها اقتصادياً، لذلك ليس من المطروح أن تسلك الدول الأوروبية اختيار الدعم الفعلي مالياً لإسرائيل".
أما عن هاجس "التسلح في أوروبا فهو مطروح داخلياً ضدّ روسيا"، وفق الخبير الاقتصادي، مشدداً على أنه "لا يمكن أن تنشغل أوروبا اليوم بتسليح إسرائيل".
ويؤيد حسين هذا الطرح، معتبراً أنَّ "الدول الأوروبية تمرُّ بأزمات مالية واقتصادية كبيرة"، ولا يعتقد أنها "ستتمَادى إلى حدّ تمويل فعليٍّ للجانب الإسرائيلي، وخاصة أنّنا اليوم أمام ظهور بوادر انفراج".