عندما بدأ الاجتياح الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، اندفعت الولايات المتحدة وأوروبا بقوة لإظهار صرامة وحزم مواقفهم بوجه روسيا، وتحذير الروس من عواقب هذا العدوان. ارتكز ردّ الأمريكان والأوروبيين على ثلاثة محاور رئيسة: إصدار عقوبات شديدة ضد روسيا، ودعم أوكرانيا عسكرياً، واستعادة وحدة وتماسك حلف الناتو وتعزيز الجناح الشرقي لأوروبا.
تزامنت هذه الإجراءات مع بعض تصريحات للأطراف الغربية تدعو روسيا إلى الحوار بشأن وقف هذه الحرب، لكن تلك الدعوات الغربية لم تكن جادة، وكانت ممزوجة بخطاب أمريكي-أوروبي شديد اللهجة ضد روسيا، مليء بالاستفزاز والتهديد والوعيد.
العقوبات التي فرضها الغرب وحلفاؤه الدوليون على روسيا خلال أول أسبوعين من اجتياحها لأوكرانيا، كانت أقسى من كل العقوبات التي فُرضت على الاتحاد السوفييتي السابق خلال حقبة الحرب الباردة. أصبحت روسيا البلد الأول في العالم من حيث عدد العقوبات الدولية المفروضة عليها، بلغ عددها حسب الإعلام الروسي أكثر من 6000 عقوبة، بعد موجة العقوبات التي فُرضت على روسيا إثر اجتياحها العسكري لأوكرانيا، فضلاً عن العقوبات المفروضة عليها سابقاً بسبب سيطرتها على شبه جزيرة القرم في 2014.
لا شك أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا هو استخدام غير مشروع للقوة العسكرية ضد دولة جارة، لا يتفق مع كل الأعراف والشرائع الدولية والإنسانية. ولكن الغرب يعلم جيداً أن السبب الرئيس الذي دفع روسيا إلى الشروع بهذه الخطوة هو شعورها بالتهديد والاستفزاز، حسب ادّعاءات الروس، وبالتالي فإن سلوك وخطاب الغرب العدواني ضد روسيا بعد اندلاع هذه الحرب، من المؤكد سيزيد إصرار الروس على الاستمرار بهذا الصراع وعدم التراجع، بخاصة إذا ما أخذنا بالحسبان طبيعة النظام السياسي في روسيا، المبنيّ على الصلاحيات المطلقة للرئيس بوتين، وعلى فريق حكومي متشبّع بأفكاره ومطيع لقراراته السياسية والعسكرية. هذا النظام منغمس بماضي روسيا بشكل كبير، ويشعر بأن روسيا دولة عظمى يجب أن تُعامَل باحترام أكبر.
بدا الغرب كأنه يركز اهتمامه على تصعيد هذه الأزمة ومحاولة استدراج روسيا للوقوع في فخاخ جيوسياسية، تُلحِق الهزيمة العسكرية والاقتصادية بها، أكثر من اهتمامه بالبحث عن سبل تفاوضية مع الروس، لنزع فتيل هذه الأزمة وقف الأعمال القتالية في هذه الحرب.
الرؤية التركية لهذا الصراع
باندلاع الحرب في أوكرانيا أصبحت تركيا أمام معادلات دولية وإقليمية معقدة، تطلبت منها درجة عالية من تقدير المواقف وتقييم الأوضاع، وحسابات دقيقة في السياسة الخارجية، لتحقيق التوازن المطلوب في علاقات تركيا بالأطراف المنخرطة في هذه الأزمة من جهة، ولتقليل انعكاساتها على تركيا من جهة أخرى.
فالحرب الروسية-الأوكرانية أشبه ما تكون بحرب عالمية جديدة، ثلاث قوى عالمية من أصل أربع مشتركة بها (الولايات المتحدة، أوروبا، روسيا)، والرابعة (الصين) تترقب نتائج هذه الحرب باستعداد عالٍ للتوثُّب. فضلاً عن أن هذه الحرب حولت حوض البحر الأسود إلى منطقة مشتعلة، وهو أحد المجالات الحيوية المهمة للأمن والاقتصاد التركي، وهو بحر شبه مغلق، بوابته الوحيدة نحو طرق المواصلات البحرية العالمية، عبر مضايق تركيا ومياهها الإقليمية، التي من المؤكَّد سيطالها شرر هذا الصراع بحالة اتساعه، طبقاً لمضامين الصراعات العالمية وتاريخها.
من جانب آخر، تركيا لديها عدة مصالح وقضايا مشتركة مع طرفَي هذه الحرب، روسيا وأوكرانيا. تركيا وروسيا هما في خندقين متقابلَين، ولكن متفاهمَين، حول ضبط مسارات الأزمة السورية وتطوراتها التي باتت تشكّل قضية مهمة للأمن القومي التركي. كذلك روسيا لديها تأثير ونفوذ كبير في المؤسسات الدينية الأرثوذكسية والتيارات المجتمعية والثقافية في اليونان، تلك الجماعات لديها قدرة كبيرة على إثارة العدائية ضد تركيا في الرأي العامّ اليوناني، وبالتالي الضغط على الحكومة اليونانية ودفعها إلى تبنّي سياسات وسلوكيات ضد تركيا. كذلك بين روسيا وتركيا تعاون كبير في عدة مجالات اقتصادية، أهمها الطاقة والصناعات العسكرية والسياحة. وفي السياق نفسه بين تركيا وأوكرانيا علاقات سياسية واقتصادية متينة، بخاصة في مجالات الزراعة والصناعات العسكرية.
لذلك فإن موقف تركيا من هذه الأزمة اتسم بالوضوح والحكمة، فقد وقفت ضد الاجتياح الروسي لأوكرانيا، سواء خلال التصويت على إدانة ذلك الغزو في المنظمات الدولية، أو خلال خطابها الرسمي والإعلامي، وأسهمت بفاعلية في مساعي تخفيف التداعيات الإنسانية لهذه الحرب على الشعب الأوكراني، ودعمت بوصفها عضواً في حلف الناتو إجراءات الحلف بتقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا. وقد زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أوكرانيا في أغسطس/آب الماضي، والتقى الرئيس الأوكراني زيلينسكي كخطوة للتعبير عن التضامن التركي.
في الوقت نفسه حرصت تركيا على إبقاء قنوات تواصل فعالة مع أطراف النزاع المباشرة، روسيا وأوكرانيا، للحفاظ على استمرارية الجهود التفاوضية في خضمّ هذا الصراع. مع تقديم نصائح للغرب بتخفيف حدة الخطاب الموجَّه ضد روسيا لتجنُّب تقويض جهود إحلال السلام في هذا النزاع.
الموقف الغربي من الوساطة التركية
أصبحت تركيا الوسيط الأكثر تأثيراً والأكثر موثوقية به من طرفي هذه الحرب، وتمكنت من جمع الروس والأوكرانيين بعد اندلاع الحرب بينهما إلى طاولة المفاوضات على أراضيها، في عدة جولات جرت في أنطاليا وإسطنبول. كان آخر مؤشرات نجاح دور الوساطة التركية، بل أهمها، اتفاقية الشحن الآمن للحبوب والموادّ الغذائية من المواني الأوكرانية، التي وُقّعَت بين روسيا وأوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة في إسطنبول في يوليو/تموز الماضي.
هذه الاتفاقية كان لها أثر كبير في تأمين سلاسل التوريد ومتطلبات الأمن الغذائي العالمي، وجنّبَت العديد من دول العالم ذات الاقتصادات المنهكة مواجهة أزمات غذائية ومجاعات، ربما كانت ستقود إلى عدم استقرار سياسي وأمني وثورات "جياع" في تلك الدول.
في مرحلة ما من الأزمة الأوكرانية واجهت الأدوار التركية في هذه الحرب بعض الانتقادات والتشكيك من الغرب، وذهب بعضهم إلى وصف تركيا بأنها تحرص على تحقيق مصالحها من خلال تلك الأدوار، أكثر من حرصها على ردع روسيا والتضامن مع حلفائها في الناتو.
إثارة هذه الانتقادات تُعَدّ أمراً طبيعياً إذا ما نظرنا إلى ترسُّبات بعض التوترات التي حصلت في العلاقات بين تركيا وبعض دول الغرب. ولكن على الغرب أن يدرك أن عالم الحرب الباردة وخطوط تماسِّه لم يعُد موجوداً، وأن الظروف الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والمنطلقات الآيديولوجية قد تغيرت في عموم العالم، مما يجعل من الصعب إعادة احياء المعسكرين العالميين التقليديين الغربي والشرقي، بالنسبة إلى الغرب وإلى روسيا.
لقد قال الرئيس التركي أردوغان في مؤتمر صحفي مع نظيره الصربي ألكسندر فوتشيتش خلال زيارته للعاصمة بلغراد في 7 سبتمبر/أيلول: "يمكنني القول بوضوح إنني لا أجد موقف الغرب تجاه روسيا صحيحاً، لأن الغرب يتبع سياسة تقوم على الاستفزاز". وأضاف أردوغان أنه "لا يبدو أن الحرب الروسية-الأوكرانية ستنتهي في أي وقت قريب، وأقول لمن يستخفّ بروسيا، إنك تفعل ذلك بشكل خاطئ. روسيا ليست دولة يمكن الاستهانة بها". وجدّد الرئيس التركي تأكيد سياسة أنقرة المتوازنة بين روسيا وأوكرانيا للمساعدة على حل الأزمة.
في كلمة ألقاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه في 1 سبتمبر أمام مجموعة من الدبلوماسيين الفرنسيين، عبّر ماكرون عن رفضه "الأخلاق الخاطئة" التي تمنع باريس من مواصلة الاتصالات مع موسكو، وقال إن "التحدث إلى روسيا لا ينبغي أن يُترك لتركيا فقط"، وأضاف أن "وظيفة الدبلوماسي هي التحدث إلى الجميع، بخاصة الأشخاص الذين نختلف معهم"، وأعلن ماكرون أن "فرنسا ستواصل محادثاتها مع روسيا بالتنسيق مع حلفائها". وتساءل ماكرون في كلمته بتهكُّم: "من يريد أن تكون تركيا القوة العالمية الوحيدة التي تتحدث مع روسيا؟". يبدو أن ماكرون أخيراً قد استوعب الدرس التركي في كيفية التعامل مع روسيا.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.