تابعنا
تواصل المجلة الفرنسية نشر رسائل الكراهية، ولا يردعها رادع إذ وصل بها الأمر إلى السخرية من ضحايا الزلزال المدمر في تركيا.

بعض الأشياء مريع بشكل واضح وفاجع، مع ذلك يظنّ فئة معينة من البشر، بغيضون وعديمو الروح، أنها مقبولة أو حتى مضحكة. وهنا بالطبع أقصد الرسوم الكاريكاتيرية الساخرة التي نشرتها مجلة شارلي إيبدو الفرنسية مؤخراً والتي سخرت من آلاف الضحايا الأتراك والسوريين الذين لقوا حتفهم أو أصبحوا بلا مأوى ومعوزين في أعقاب الزلازل المميتة التي ضربت المنطقة، وكان مركزها في مدينة قهرمان مرعش في جنوب تركيا.

قوبل هذا الفعل بطبيعة الحال بانتقاد وغضب واسع النطاق، الأمر الذي يدل على أن هذه الفعلة فُهمت على أنها تَصرُّف غير مسؤول وغير مناسب، وتقبع خلفه دوافع ونزعات عنصرية معادية للمسلمين متأصلة بعمق في المجتمع الفرنسي.

تاريخ فرنسا في كراهية المسلمين

حكمت الإمبراطورية الفرنسية مناطق عدة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وترك إرثها من الاستعمار العنصري جروحاً عميقة لم تلتئم بعد. ومن المهمّ ملاحظة تداعيات الاستعمار الفرنسي والتاريخ الطويل للمواقف العنصرية تجاه المسلمين، فحتى اليوم يواجه المسلمون الفرنسيون أنفسهم تمييزاً واضحاً داخل فرنسا، وهو تمييز يُروَّج على أعلى المستويات الرسمية ومن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

بين عامَي 1920 و1946 كانت سوريا واقعة تحت الحكم الاستعماري الفرنسي مباشرة، الذي أمضى أكثر من ربع قرن في معاملة الشعب السوري بوحشية، محاولاً القضاء على سيادتهم وحقهم في تقرير المصير.

تَسلَّل هذا التاريخ من الاستعمار والعنصرية إلى المجتمع الفرنسي الحديث اليوم، ما جعلهم يجرّدون المسلمين من إنسانيتهم. وأصبح محررو المجلات مثل أولئك الذين يعملون لصالح شارلي إيبدو يعتقدون أن هذا النوع من الحيل الدنيئة مناسب، معرّضين ضحايا الزلزال التركي والسوري لهذا النوع من "السخرية" غير الحساسة والمؤذية، ساعين لكسب ضحكات رخيصة على حساب جروح الأبرياء التي لم تجفّ بعد.

ومن الواضح أن تصرفات المجلة هي مظهر من مظاهر الكراهية المتفشية ضد المسلمين. فمشاعر الخوف والكراهية اللا عقلانية ضدّ الإسلام والمسلمين، تمثل أزمة كبيرة في عديد من الدول الغربية. غالباً ما يغذي هذا الخوف والكراهية الصور النمطية السلبية والمعلومات المضللة، الأمر الذي يساهم بشكل رئيسي في التهميش والتمييز الذي يواجهه المسلمون، ليس فقط في فرنسا ولكن في أماكن أخرى من أوروبا.

ومن خلال السخرية من ضحايا الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا، لا تعمل مجلة شارلي إيبدو على إدامة هذه الصور النمطية السلبية فحسب، بل تساهم أيضاً في تعزيز الكراهية ضد المسلمين المنتشرة بالفعل في فرنسا وخارجها. ففي الرسوم الكارتونية، يبتهج رسامو الكاريكاتير بالدمار الذي لحق بأغلبية مسلمة، خصوصاً لأنهم "لم يحتاجوا حتى إلى إرسال دبابات". بعبارة أخرى، إنهم مسرورون لرؤية الخراب الذي يلحق بالمسلمين كأنهم في حرب مدمرة.

ابكِ من أجل فرنسا واضحك على المسلمين

السخرية من الناس في أعقاب مأساة هي أمر غير مقبول أبداً، بغضّ النظر عن دينهم أو عرقهم. على سبيل المثال، عندما تعرضت مجلة شارلي إيبدو نفسها للهجوم عام 2015، لم ينخرط الأتراك، لا على مستوى الدولة ولا حتى على المستوى الشعبي، في عمليات السخرية، بل على العكس تماما، أوفدت تركيا كبير دبلوماسييها إلى باريس للتضامن مع فرنسا ضد الإرهاب.

لقد عانى ضحايا زلزال أول من الأمس، خسارة فاجعة وصدمة لا يمكن وصفها، ويجب أن يُعامَلوا بكرامة واحترام. إن السخرية من معاناتهم تصرُّف حقير، وترسل أيضاً رسالة مفادها أن حياتهم وخبراتهم في الحياة، فضلا عن أسرهم وأحبائهم، لا تستحق التقدير أو الاحترام. هذا النوع من الرسائل ضار بشكل خاصّ في المجتمع الفرنسي والمجتمعات الغربية الأوسع التي تعاني انقساماً حقيقياً عميقاً على أسس عرقية ودينية.

الهجاء أداة قوية، ويمكن أن يكون لها تأثير عميق على الأشخاص الذين تستهدفهم، فضلاً عن التصورات العامة. وغالباً ما يُستخدم الهجاء لتحدي السلطة وفضح الظلم والنفاق، إلا أنه عندما تُستخدم السخرية للنيل من الضعفاء بالفعل، فإنها لا تؤدّي إلا إلى مزيد من الأذى لهم، خصوصاً عندما يكون المستهدَفون ضحايا مأساة. إن النَّيل من الضعفاء مظهر من مظاهر الخسة، ناهيك بأنه فعل مُحزِن وغير أخلاقي.

مرة أخرى، هذا ليس فعلاً جديداً من شارلي إيبدو، وهي مجلة مثيرة للاشمئزاز فعلاً، فقد ظنّت أنه من المناسب والمضحك افتعال النكات على ضحايا الزلزال الذي أصاب إيطاليا عام 2016 من خلال تصويرها على أنها أنواع مختلفة من البيتزا. وفي عام 2016 أيضاً لا أحد يمكن أن ينسى كيف أظهرت المجلة افتقارها إلى أي ذرة من اللياقة الإنسانية عندما سخروا من جثة آلان كردي البالغ من العمر عامين، وهو لاجئ سوري غرق في البحر فيما كانت عائلته تحاول الهروب من الحرب والدماء.

على صعيد آخر، أرادت شارلي إيبدو أن يبكي العالم بأسره معها ومع فرنسا عندما تَعرَّضوا للهجوم، ولكنهم شعروا أن من المناسب التغاضي عن الأسس الأخلاقية عندما يتعلق الأمر بافتعال الضحك على الموت والدمار الذي يصيب المسلمين. إن مجلة مثل شارلي إيبدو هي قطعة قماش رخيصة مصمَّمة لانتزاع الضحكات من أمثالهم من الفاشيين اليمينيين المتطرفين الذين يحتفلون بدماء المسلمين، وحسبما أعتقد فهذا واضح، ولو لشخص مفلس أخلاقيّاً.

بينما سُمّيَت قهرمان مرعش قديماً بهذا الاسم بسبب بطولتها -كلمة "قهرمان" بالتركية تعني بطل- ولا تزال تسجّل قصص بطولة حقيقية على طول خط منطقة الكارثة، تدوّن مجلة شارلي إيبدو اسمها في سجل التاريخ ككيان مفعم بالشر. وعلى الرغم من كل الألم الذي نشعر به جميعاً، فهذه معادلة يمكنني التعايش معها.



جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً