يعود هذا الجدل لعدة عوامل تقاطعت كان من أبرزها العلاقة الشخصية المتدنية التي تجمع الرئيس بايدن وولي العهد السعودي محمد بن سلمان. ولكن الأهم أن الزيارة تأتي في ظل لحظة تاريخية فاصلة تشهد تضاؤل النفوذ الأمريكي وصعود قوى أخرى على رأسها الصين "التهديد الاستراتيجي" وروسيا "الخطر الاستراتيجي" حسب تقييمات حلف شمال الأطلسي مؤخراً بعيد قمته في مدريد. فمهمة بايدين الأولى ليست فقط محاولة استمالة الرياض من أجل دور أكثر حزماً نحو استقرار أسواق الطاقة عالمياً، بل من أجل فرملة تقاربها الاستراتيجي مع الصين والتي باتت تحظى بموطئ قدم واضح في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي.
من المصادفات الغريبة أن زيارة الرئيس بادين تأتي بعيد أيام من اغتيال رئيس الوزراء الياباني الأسبق شينزو آبي (السياسي الأقوى في بلاده رغم عدم تقلده أي منصب عمومي) والذي استطاع ببراعته وحنكته السياسية اختراق المجمع الأمني في واشنطن والذي كان مشغولاً عام 2007 بالحرب في العراق وإقناعه بأن الخطر الحقيقي على الولايات المتحدة إنما يأتي من الشرق وتحديداً من الصين. وقد رأينا بعد ذلك كيف أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس أوباما صاغت استراتيجية جديدة نحو التوجه شرقاً وضرورة التخفف من أعباء الشرق الأوسط بالانسحاب من العراق، والتوصل إلى اتفاق مع إيران وعدم الانخراط في سوريا، والاكتفاء بالقيادة من الخلف في ليبيا.
يتوارى آبي عن المشهد ويأتي بايدن إلى المنطقة محملاً بعقيدة أمريكية تقليدية مقتضاها أن الشرق الأوسط وخصوصاً منطقة الخليج منه لا يزال يحظى بأهمية استراتيجية في السياسة العالمية. فمع اهتزاز أسواق الطاقة على المستوى الدولي، برزت دول الشرق الأوسط الغنية بالنفط كواحدة من أهم عوامل الاستقرار والتوازن. فالأمر لا يتعلق فقد بمحاولة إعادة ضبط هذه الأسواق وحسب، بل الأمر يتعلق بمنع سقوط الغرب كله في أتون أزمة اقتصادية خانقة تكون أزمة عام 2008 بالنسبة إليها مجرد مزحة.
يعي بايدين أن سياسة "الدولة المنبوذة" التي تبناها ضد السعودية إبان حملته الانتخابية لا تناسب المرحلة. ولذلك نراه يأخذ خطوات حذرة إلى الوراء في محاولة منه لتحقيق توازن حساس بين الحفاظ على علاقة بلاده الاستراتيجية مع السعودية كواحدة من أبرز وأهم دول الخليج المصدرة للطاقة من ناحية، وعدم إغضاب الجناح التقدمي بحزبه الساخطين على السعودية لأجل ملفها في حقوق الإنسان من ناحية أخرى.
يأتي بايدن ليزور السعودية وفي خلفية المشهد دافعان رئيسيان هما: أولاً وبشكل عاجل تحقيق حالة من الاستقرار في أسواق الطاقة قبل أن يفوت الدول الغربية القطار وتجد نفسها إما في حالة ركود اقتصادي مزرٍ وإما تجمد على أعتاب فصل الشتاء المقبل. وقد أخبرني أصدقاء لي يقطنون بعض الدول الأوروبية أن الشتاء الماضي أمضوه في حالة تدثر بأثواب سميكة خوفاً من تشغيل عداد الغاز للتدفئة لارتفاع أسعاره. الصقيع في أوروبا عدو لا يمكن مواجهته بإجراءات ترقيعية أو تقشفية.
أما الدافع الثاني فيتمثل بمحاولة تسديد ضربة استباقية إلى الصين وإبعادها عن تحقيق موطئ قدم استراتيجي في المنطقة. ربما تكون هذه ضربة متأخرة بعض الشيء وهنا شكوك تحوم حول قدرتها على فرملة الحضور الصيني في المنطقة. فالصين أصبحت لاعباً مهما وجوهرياً في منطقة الخليج من خلال شراكاتها الاستراتيجية مع إيران على سبيل المثال. فمن خلال الاتفاقيات الاقتصادية استطاعت الصين أن تكون الشريك الاقتصادي والتجاري الأول لإيران حتى بات بعض الأطراف داخل إيران يتهمون الحكومة ببيع بلادهم للصين. وقد انعكست هذه الشراكة على الجانب الأمني أيضاً. فقد أجرى البلدان وبمشاركة باكستان مناورات عسكرية بحرية واسعة النطاق مؤخراً في المحيط الهندي.
السعودية أيضاً أظهرت تقارباً في العديد من الملفات الاستراتيجية الحساسة مع الصين. فالصين أصبحت المزود الأول للسعودية من الطائرات من غير طيار طراز Wing Loong II والتي تضاهي من حيث مواصفاتها الطائرة الأمريكية من طراز MQ-9 Reaper. ليس هذا وحسب، بل توصل البلدان إلى اتفاقية تسمح بموجبها الصين بنقل تكنولوجيا تصنيع الطائرة إلى السعودية بحيث يجري إنتاجها على الأراضي السعودية. ليس هذا وحسب، فكما أشرت في مقال سابق هنا، فالصين تساعد السعودية على بناء برنامج للصواريخ الباليستية. وتوجد تقديرات لجهات استخباراتية غربية بأن هذه الصواريخ سوف تنتج أيضاً على الأراضي السعودية.
بالنسبة إلى السعودية فإن التعاطي مع الصين في هذه القضايا الاستراتيجية أقل تكلفة مقارنة بنظيراتها الغربية التي "كلما دق الكوز بالجرة" تفتح ملف حقوق الإنسان والاشتراطات التي تستتبعه. لا شك أن ملفات حقوق الإنسان لها أولوياتها القصوى، ولكن في التنافس الاستراتيجي بين الدول على المصالح العليا، تتوارى مثل هذه المسائل لتحل محلها مسائل من قبيل الأمن القومي والمصالح الحيوية. هذا فضلاً عن أن ملف حقوق الإنسان في الدول الغربية لم يعد ناصعاً وكلنا يرى كيف تزخر هذه الدول بالعنصرية الفجة ضد المهاجرين والملونين على سبيل المثال.
هل سيقدم الرئيس بايدين على خطوات من شأنها أن تعيد السعودية إلى تقييم حساباتها مجدداً وبالتالي النأي عن الصين؟ يوجد شك بذلك، فأزمة الثقة بين البلدين رغم علاقتهما التاريخية تصاعدت مؤخراً بشكل كبير رغم بقاء الولايات المتحدة الشريك الاستراتيجي الأول للسعودية وباقي دول الخليج. فبالنسبة إلى عدد من اللاعبين في المنطقة لم تعد واشنطن حليفاً موثوقاً. بالحديث عن السعودية فقد تهشمت ثقتها بواشنطن إبان ثورات "الربيع العربي" عندما رأت كيف تخلت واشنطن عن حلفائها مثل حسني مبارك، وبعد ذلك عندما أقدمت واشنطن ومن غير مشاورة حلفائها في الخليج بتوقيع اتفاقية مع إيران حول برنامجها النووي دون مراعاة مخاوفهم الأمنية من إيران وتدخلاتها في المنطقة، وأخيراً قضية "خاشقجي" التي استثمرها بايدن في حملته الانتخابية لاستمالة الجناح التقدمي من "الديمقراطيين" لدعمه ضد منافسه ساندرز.
وعليه هل سينجح البلدان في ردم هوة الثقة بينهما على إثر زيارة الرئيس؟ يبقى هذا سؤال مفتوحاً برسم الأيام القادمة. ما هو مؤكد اليوم أن العالم دخل مرحلة جديدة لا تملك فيها أمريكا الهيمنة المطلقة أو القدرة على إملاء إرادتها، وأن الدول الأخرى أصبحت تملك بحبوحة من الخيارات وهو ما سيعزز معاني الاستقلال والسيادة. لا أحد يستطيع أن يجزم بالضبط بمآلات هذا التوجه الجديد ولكنه توجه آخذ بالاتساع رويداً رويداً.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.