يأتي ذلك نتيجة فشله في إدارة الملفات السياسية التي كان يسعى من خلالها لأن يكون أحد أقطاب الحل في سوريا، متناسياً أنّ التنظيم لم يكسب أي معركة سياسية على مر التاريخ، وتلك طبيعة التنظيمات الراديكالية التي ترى أنّ الإرهاب أساس بقائها.
لم يكُن اللقاء الأخير بين ممثلين عن تنظيم PKK الإرهابي في سوريا وممثلين عن نظام الأسد في شهر فبراير/شباط الماضي مرضياً بالنسبة إلى التنظيم، إذ اعتبروا أنّ نظام الأسد وجّه إليهم إهانة كبيرة عندما قال لهم: "لا لقاءات جديدة إلّا إذا وافقتم على شروطنا".
شروط نظام الأسد كانت تتلخص بضمّ قوات جهاز الاستخبارات التابع إلى PYD، الذي يطلق عليه اسم "الأسايش" إلى قوى الأمن، وضم قوات PYD الإرهابية إلى الجيش، فضلاً عن توحُّد PYD مع المجلس الوطني الكردي الذي يشكّل أحد مكوّنات الائتلاف الوطني وباقي الأحزاب الكردية، مقابل أن يعطي الأسد التنظيم إدارة ذاتية شمال شرقي سوريا ويؤمّن لهم الغطاء السياسي، وهذا بطبيعة الحال ما لا يمكن أن يوافق عليه التنظيم، مما شكّل أزمة لديهم مع نظام الأسد الذي يُعَدّ الحليف التاريخي لهم.
الأمر الآخر الذي طالما عانى منه التنظيم الإرهابي هو اضطراب معبر سيمالكا-فيشخابور، إذ يُعتبر المعبر الحدودي الأهم لهم بين إقليم شمال العراق ومناطق شمال شرق سوريا التي تمتد لمسافة 150 كيلومتراً، بعد أن أغلق الفيتو الروسي عام 2020 معبر اليعربية الحدودي، وهذا ناجم عن العلاقة المتوترة على الدوام بين التيار البرزاني وتنظيم PKK الإرهابي.
هذا التضييق على الجناح السوري لتنظيم PKK الإرهابي من قبل النظام السوري وحكومة شمال العراق دفعه إلى التفكير في حلول جديدة قد لا تكون بالنسبة إليه مرضية، إنّما ضرورة يناور من خلالها، فبدأ إرسال وسطاء إلى المعارضة السورية كنوع من الضغط على الأسد، ثم أعلن عن احتفالية مركزية في منتصف مارس/آذار الماضي بمناسبة عيد الثورة السورية.
كان ردّ نظام الأسد بحصار حيَّي الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، تلاه حصار PYD للمربع الأمني التابع للأسد في الحسكة والقامشلي، ومنعوا وصول إمدادات الطحين إلى فرني "المساكن" في مدينة الحسكة، و"البعث" في مدينة القامشلي، كما أغلقوا عدّة طرق تصل إلى مطار القامشلي والمربع الأمني في مدينة القامشلي، إضافةً إلى تحشيد قواتها في تلك المناطق.
هنا جاء دور الوساطة الروسيّة في التهدئة والعودة إلى الوضع الطبيعي، مع خروج مليشيا PYD من المباني التي سيطروا عليها، دون أن تفضي الوساطة الروسية إلى حلّ جذري للمشكلات العالقة بين الطرفين.
يبدو أنّ PYD الذي يُعتبر الجناح السوري لتنظيم PKK الإرهابي يناور في الوقت ويبحث عن حلول لأزمته، شريطة أن لا تؤدي تلك الحلول إلى أي تنازل، من هنا يمكن القول إنّ وساطته مع المعارضة السورية من أجل فتح حوار مع الجانب التركي كانت غير مجدية، فالطرفان الآخران لديهما شرط أساسي لا يمكن لـPYD تنفيذه، هو فك الارتباط تماماً ونهائياً عن PKK وخروج القيادات كافةً المرتبطة بقنديل من سوريا.
لدى PYD تياران، يضمّ الأول المتشددين، وهم الكوادر الأجنبية، ويعمل أغلبهم في جهاز الاستخبارات "الأسايش" ويتبعون مباشرةً قيادات قنديل، فيما يضمّ التيار الثاني شخصيات سورية مرنة وغير متشددة تعمل في التشكيلات العسكرية والإدارات المدنية، وهذا الصراع بين الطرفين أدّى إلى عدم الوصول إلى رؤية استراتيجية واضحة.
يرى التيار المتشدد أنّ الحليف التاريخي لهم هو نظام الأسد، لذلك يجب التوجه إلى تقارب معه بوساطة روسية دون تنفيذ مطالبه، فيما يرى الجناح الآخر أنّ مرحلة التحالف مع نظام الأسد قد انتهت ويجب القبول بالأمر الواقع والتوجه إلى حلّ الملفات العالقة مع تركيا، إلا أنّ الرأي الأخير لم يلقَ قبولاً لدى قيادات PKK الإرهابي، لذلك كانت المليشيات الإرهابية التابعة لـPYD تسعى للتقارب مع المعارضة من جهة، وتقوم بعمليات إرهابية وقصف لمناطق نفوذ حكومة المعارضة من جهة ثانية.
تدرك تركيا، وهي الحليف الأهم للمعارضة السورية، هذا الأمر، لذلك سعت على الدوام لتحييد القيادات الأجنبية المرتبطة بـPKK في سوريا، من خلال عمليات دقيقة استهدفت كبار قيادات قنديل، فقد شهدت الفترة الماضية ارتفاعاً ملحوظاً في وتيرة قصف المسيرات التركية لقيادات مهمة تتبع PKK الإرهابي في منطقة شرق الفرات عموماً، ومحيط منطقة "نبع السلام" في ريفَي تل تمر وعين عيسى على وجه الخصوص.
وفي هذا السياق، وبعد سلسلة من العمليات التي استهدفت كبار قيادات PKK في سوريا جاءت عملية "المخلب-القفل" التي أطلقتها تركيا ضد العناصر الإرهابية في مناطق متينا وزاب وأفشين-باسيان شمالي العراق، وعلى الرغم من انّ العملية تستهدف العناصر الإرهابية في تلك المنطقة، فإنّها قد تؤدّي إلى فصل الممرات بين قنديل ومنطقتَي المالكية وديريك شمال شرق سوريا على مسافة تمتد نحو 100 كم.
فصل هذه الممرات المترافق بتحييد القيادات القنديلية في سوريا سيدفع بمليشيا PYD إلى تغيير استراتيجيتها والاعتماد على قيادات عربية محلية، وهذا يعني إجبارها على تغيير بنيتها، وفصلها عن المركز الرئيسي في قنديل، مما سيتيح لأنقرة بشكل أكبر تغيير قواعد الاشتباك في المنطقة وربما تنفيذ حملة عسكرية بريّة جديدة شمال شرق سورية، في ظل انشغال روسيا في أوكرانيا وإطلاق الآلية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
هذا الأمر يفسّر جنون PYD وجنوحهم لأول مرة إلى تنفيذ عمليات تجنيد قسري حتى للنازحين الذين يقيمون في تلك المنطقة، دون خوف من ردود أفعال من قبل السكان المحليين الذين تم شَغْلهم في تلك المناطق بالمشكلات الاقتصادية والمعيشية التي وصلت إلى حد استهداف رغيف الخبز.
إنّ PYD الآن أمام مفترق طرق، فإما أن تُبقِي على ارتباطها بتنظيم PKK الإرهابي وبالتالي فهي أمام حملة عسكرية لن تقف الولايات المتحدة فيها إلى جانبهم غالباً، وإما أن تفكّ ارتباطها تماماً مع PKK وتعمل على إعطاء العرب تمثيلهم الحقيقي في المنطقة، وتسعى إلى التعامل مع الواقع الذي سيفرض تغييرات كبيرة في مراكز القوى، إذ إنّ المنطقة تمرّ بمنعطف لن يكون لها دور فيه إن استمرت بتعنُّتها، ولن تنفعها حينها شمّاعة مكافحة داعش الإرهابي التي طالما استخدمتها لزيادة قيمتها في عين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.