كان تردد المستشار الألماني أولاف شولتس في إرسال دبابات ليوبارد إلى أوكرانيا يتماشى جزئياً مع الرواية المعادية لأمريكا في ألمانيا.
الرأي العام للألمان في الشارع يرى أن حرب أوكرانيا أفادت بشكل كبير المجمع الصناعي العسكري الأمريكي ووضعت أوروبا على طريق التدهور الاقتصادي الحاد.
لطالما تعرضت أهمية الولايات المتحدة في أوروبا للتهديد من الدول الأوروبية المرتبطة بروسيا من خلال إمدادات الغاز والفحم والنفط وتدفق المليارات الروسية إلى الأسواق الأوروبية.
يعتقد كثير في ألمانيا أن تصعيد الحرب في أوكرانيا يعمل على إحياء النفوذ الأمريكي في المنطقة. فجأة، بدأ عديد من القواعد العسكرية الأمريكية، التي كانت خاملة في السابق يعود إلى العمل وبالتالي زادت أهمية الولايات المتحدة الاستراتيجية في المنطقة.
شولتس، الذي يرأس بالفعل حكومة ائتلافية ثلاثية، ضعيف في الداخل ومن المرجح الآن أن يقف معزولاً حتى في أوروبا.
تريد برلين اجتراح سياسة خارجية مستقلة، ويشعر شولتس بالسعادة لتركه الفرنسيين وراءه عندما يتعلق الأمر بالازدهار الاقتصادي الألماني، وتعد رحلته الفردية إلى الصين مثالاً على ذلك. ومع هذا، يتعين عليه اتباع خطى متوازنة مع أوكرانيا وروسيا.
في الداخل، واجه شولتس معارضة سياسية شديدة من اليمين واليسار لتعزيز قضية الحرب الأوكرانية أو توفير الأسلحة الثقيلة للأوكرانيين.
حتى إن بعض السياسيين من "حزب البديل من أجل دويتشلاند" اليميني المتطرف (AFD)، المعروفين بموقفهم المؤيد لروسيا، زاروا منطقة دونباس التي تسيطر عليها روسيا في شرق أوكرانيا. يشتهر هؤلاء الساسة بدعمهم للحفاظ على العلاقات الألمانية-الروسية الطيبة، بما في ذلك إلغاء العقوبات المفروضة على روسيا. واكتسب حزبهم نفوذاً انتخابياً في ألمانيا.
من موقعه على اليسار، أصبح رئيس الحزب اليساري السابق أوسكار لافونتين الصوت الرائد في معارضة إشراك ألمانيا في حرب أوكرانيا. يدعو كتابه الأخير "آمي، حان وقت الرحيل"، الولايات المتحدة إلى مغادرة المنطقة. يعتبر "آمي" مصطلحاً مهينا للأمريكيين.
ينتقد لافونتين بشدة الوجود العسكري الأمريكي في ألمانيا والسياسات المتعلقة بالناتو، الذي يقول إنه حلف من المستحيل اعتباره منظمة دفاعية ولا يمكن وصفه إلا أداة للمصالح الجيوسياسية الأمريكية.
ذهب لافونتين إلى حد القول إن المساعدات العسكرية لبلاده إلى أوكرانيا تُظهر كيف أن ألمانيا ليست دولة مستقلة ولكنها تابعة للولايات المتحدة. ويجادل بأن أوروبا بحاجة إلى وضع حد لخضوعها للمصالح الأمريكية والبدء في شق طريقها الخاص. ووصل كتابه إلى فئة أكثر الكتب مبيعاً في الآونة الأخيرة.
لمواجهة عقيدة "افعل المزيد" التي تفرضها عليه الولايات المتحدة والضغط الأوروبي في الاتجاه ذاته، مارس شولتس لعبة التأجيل والمقاومة. كانت التوقعات في برلين أن تستسلم أوكرانيا بسرعة وأن تستمر العلاقات مع روسيا كالمعتاد، لكن هذا لم يحدث. واتخذ قراره بإرسال دبابات ليوبارد في نهاية المطاف تحت ضغط شديد من حلفاء ألمانيا.
تجد ألمانيا نفسها بين ركود اقتصادي عميق وحاجة ماسة إلى عدم تفاقم الوضع مع روسيا، الأمر الذي قد يترك الباب مفتوحاً لتحسين العلاقات في المستقبل مع موسكو مع عدم تشويه سمعتها في الناتو.
بدأ كل شيء مع "التخريب" لخط أنابيب نورد ستريم 2، والذي علقت عليه برلين الآمال أنه ومع انتهاء الحرب سوف تعود إمدادات الغاز الروسية من خلاله.
ولكن بعد فترة وجيزة، ظهر مقطع فيديو قصير على وسائل التواصل الاجتماعي لتلاسن محبط بين الرئيس الأمريكي جو بايدن وصحفي ألماني في مؤتمر صحفي، إذ ادعى الرئيس شيئاً مفاده أن الولايات المتحدة لن تسمح "لنورد ستريم 2 بالمضي قدماً".
تحدّى الصحفي الألماني هذا الطرح بشدة، وقال حينها: "كيف يمكنك التحكم فيه؟ إنه ليس في بلدك"، فرد بايدن: "سترى".
اعتبر كثيرون في ألمانيا ذلك إشارة واضحة على استفزاز الولايات المتحدة لأوروبا وروسيا بما يصب، كما يعتقدون، في المصالح الأمريكية الظاهرة.
حرب تجارية
سبب آخر لتصاعد المشاعر المعادية لأمريكا في جميع أنحاء ألمانيا هو الحرب التجارية التي من المحتمل أن تضر بالاقتصاد الألماني بشدة.
كانت تغريدة الرئيس الأمريكي في 5 يناير/كانون الثاني: "لنجعل عام 2023 عام الشراء الأمريكي"، صفعة في وجه القادة الأوروبيين الذين يرون سياسات بايدن، ولا سيّما قانون الحد من التضخم "إجراءً حمائياً يمنع الشركات الأوروبية متعددة الجنسيات الخروج السوق الأمريكي رابحة".
من المقرر أن تقدم إدارة بايدن مبلغاً قياسياً قدره 370 مليار دولار من الإعانات الفيدرالية الجديدة للسيارات الكهربائية ومزارع الرياح والبطاريات وتقنيات الطاقة النظيفة الأخرى. يشعر قادة الاتحاد الأوروبي بالقلق من أن القانون يمكن أن يجذب الاستثمار من أوروبا إلى الولايات المتحدة.
ستميز هذه الإعانات ضد الشركات غير الأمريكية، لا سيَما في وقت تعاني فيه أوروبا اقتصادياً. سيقدم القانون خصومات ضريبية للمستهلكين الأمريكيين للسيارات الكهربائية طالما أن 40% من المواد الخام في بطارياتهم يجرى استخراجها ومعالجتها في الولايات المتحدة. هذا يعني أن شركات صناعة السيارات الأوروبية ستخسر في سوق الولايات المتحدة.
أدت الآثار الأوسع للحرب في أوكرانيا والتدابير الحمائية التي اتخذتها إدارة بايدن إلى إحداث شرخ بين الغرب التقليدي الذي من المرجح أنه سيكون على استحقاق لاختبار وحدة الناتو في المستقبل القريب.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.