فرينيه الذي ولِد لعائلة كاثوليكية عام 1886 درس الرياضيات والفلسفة في كلية "رولان" الباريسية، وبعد عام 1906 تنقل بين عدة فرق ومنظمات سرية كان من أهمها (الماسونية) الذي انضمّ إلى محفلها الكبير في فرنسا عام 1908، لينضم إثر ذلك إلى الكنيسة الغنوصية التي لا تؤمن بتجسّد الله عز وجل في صورة بشر، لينتقل إثر ذلك إلى التعمّق في الديانات الكبرى الشهيرة كالهندوسية والطاوية والإسلام، وقد نشر العديد من المقالات حول التصوف الإسلامي في مجلة النادي التي رأس تحريرها صديقه الرسام السويدي المسلم (جان جوستاف أجلي) ليصل رينيه بعد استفاضة واسعة في دراسة الإسلام وغيره من الديانات إلى اعتناق الإسلام ديناً عام 1912 واتخذ لنفسه اسم عبد الواحد يحيى.
تفرّغ "عبد الواحد" للكتابة والتأليف منذ عام 1920 فكان أول كتبه "مدخل إلى العقائد الهندوسية" لتتوالى من بعده كتبه المخصصة لتفكيك الحضارة الغربية وإظهار مفاسدها، كما في كتاب "الشرق والغرب" و"أزمة العالم الحديث" و"هيمنة المادّة".
تعرّف رينيه أثناء إقامته في القاهرة إلى الشيخ محمد إبراهيم، وفي عام 1934 تزوج من ابنته فاطمة وأنجبت له أربع أولاد، وقد تُوُفِّي فيها عام 1951 عن عمر يناهز الـ64.
ثنائية الروح والمادّة
أوجدت جدلية التراث والحداثة في مختلف مدارس الفكر الإنساني، فمنها ما انحاز إلى التراث ومنها ما انحاز إلى الحداثة، في حين أن كثيراً من المفكرين حاولوا الخروج بتيار متوسط يجمع بينهما.
يعدّ "رينيه" من أهم الأشخاص الداعين للرجوع إلى التراث والاعتماد على الروحانية المعنوية في مواجهة طغيان الحضارة المادية، وضمن هذا التوجه علماء وفلاسفة كثيرون ركزت دعواتُهم على نقد الحضارة الغربية المعاصرة التي دمرت الأخلاق والفضيلة والبيئة.
ولعل أهم سمات التعارض بين الشرق والغرب منهج كلٍّ منهما في المعرفة والعمل، فالعلم المشرقي على اختلاف ملله برأي رينيه يتصل بسندٍ ما بالأساس المقدس المأخوذ من مصدر إلهي، أما العلم الغربي فهو متصل بالأساس المدنس المأخوذ من مصدر دنيوي بحت.

ولعل أحد أبرز وجوه التعارض بين حضارات الروح والمادة هو التعارض بين نوازع التأمّل والعمل، فالفلسفات الروحانية المشرقية حتى المبنية على ديانات وثنية هي فلسفات تأملية، بينما يبني الغرب عقله على الفعل البشريّ الدؤوب أكثر من التأمل؛ وكانت النتيجة أن استمر الغرب بإنكار الحدس العقلي، والتعويل على أنماط لا متناهية من القناعات الفردية.
ومن ثم فإن سمات الحضارة المعاصرة تعبّر بشكل واضح عن حقيقة هذا الأساس المدنّس كما في طغيان النزعة الفردانية التي طبعت مدنيّة العصر الحديث، والفوضى الاجتماعية، وتغول المادية وإقصاء حضارات العالم الأخرى عن أداء رؤاها الفكرية والروحانية، وهذا بدوره يقود العالم إلى انهيار كبير يتلوه نهوض لا بدّ منه، إذ إن الحضارة المعاصرة ليس لها مكانة متميزة في تاريخ العالم، وستختفي مثل الحضارات المادية الأخرى.
هذه الرؤية كانت قد ترسّخت عند رينيه منذ بواكير العقد الثالث من القرن الماضي، وحين نشر كتابه "أزمة العالم الحديث" عام 1927 كان قد وصل إلى قناعة مطلقة في ذلك الوقت بأن العالم الحديث مصاب بأزمة عميقة وهذا يعني أن تحوّلاً عميقاً على وشك الحدوث على مختلف الصعد والمستويات الفكريّة والعلميّة والاجتماعيّة، وأنّ التغير الذي سيحدث سيكون شاملاً، وهذا ما نراه الآن بعد مئة سنة تقريباً.
التكامل والتنافر في عالَم رينيه
يرى رينيه أن الحضارات التي تقوم على أسس مادية أو على إنكار الأسس الروحانية تقضي على إمكانات التوافق مع الحضارات الأخرى، فالوفاق لا يكون عميقاً ومؤثراً بالجموع المخالفة إلا إذا جاء من مبدأ علويّ أي من الجهة التي لا تؤمن بها الحضارات المادية –التي هي حضارات شاذة حسب رينيه، فالمبادئ التي تستند إليها الحضارات الروحية والمادية ظاهرة الفرق في نقطة التصحيح في حال الخلل، فهي هناك قادمة من مصدر رباني أما المادي فالتصحيح فيها يأتي بيد الإنسان الذي لا يضبط عقله معيار ثابتٌ.. وهذه إحدى سمات العالم الحديث.
إضافة إلى ذلك فهذا الزمان موصوف بأنه زمن الحركة المستمرة والتغير الذي لا ينتهي، والسرعة الزائدة، والتشتت اللا متناهي، حتى إنّ الفلسفة نفسها باتت تبتعد عن الكليات وتتجه إلى التفكيك ثم تفكيك التفكيك وهكذا إلى أبعد الغايات، وهكذا يتفكك النشاط الإنساني في جميع المسارات التي كان فيها، وهذه هي العواقب الطبيعية للنزعة المادية المطردة، لأن المادة في الأساس تقاس بالكمّ والكثرة.
وهنا يرى رينيه أن الغرب أحوج ما يكون إلى الدفاع عن نفسه ضد نفسه وضد نزعاته الخاصة التي ستجره إلى الخراب.
الفردية والمساواة.. بداية الطريق نحو الفوضى!
يعرف رينيه الفردية بأنها إنكار الغيب واكتفاء الإنسان بعقله وربط المدنية والحضارة بالأفكار والمبادئ البشرية، وبالتالي فإن تنامي هذه النزعة وتحولاتها وتمركزها على الفرد هو –حسب رينيه- السبب الحاسم للانحطاط الحضاري والروحي بالغرب فهي سبب إنكار الغيبيات وإعلاء العقل على كل شيء ثم الحرص على الاستبدال، فاستبدلت المنفعة بالحقيقة، وهذا هو جوهر الفلسفة النفعية أو البراغماتيّة.

ومن ثمّ فإنه لا يستغرَب أن يحكم الأدنى الأعلى، وأن يفرض الجهلُ حدوداً على الحكمة، وأن يتقدّم الخطأ على الحقيقة، وأن يحلّ الإنساني محل الإلهي، وأن يصنع البشرُ مقاييس متحركة خاصة به ويمليها على الكون على الرغم من أنهم يستمدونها من عقلهم الخطّاء.
هذا كله ينتج الفوضى في صلب النظام الغربي للحضارة، فالطبقات المتمايزة في العالم الغربي انقرضت بمعناها التقليدي، وقد جرى كل ذلك تحت شعار يروّج لمبدأ "المساواة"، وبناء على هذا المبدأ بات كثير من الناس يشغلون أماكن ليست ملائمة لهم أصلاً... ولكنهم وضعوا فيها تحقيقاً للمساواة في النتيجة.
يعلّق رينيه بأنه لا يمكن للمساواة أن تتحقق في أي مكان لتعذر وجود كائنين متمايزين ومتشابهين في الوقت نفسه من خلال نشر تعليم موحد أو من خلال افتراض أن الناس متساوون في قابلية فهم الأشياء، بخاصة أن مبدأ المساواة نابع في أصله من جعل الحضارة مادية بحتة فـ"لا وجود لشيء غير المادة أو ما يصدر عنها".
الحقيقة تغلب كل شيء
هذا ما يؤكده رينيه في كتابيه "أزمة العالم الحديث" و"الشرق والغرب" فالعلم "الدنيوي" خلال القرون الأخيرة لا يتعدى أن يكون دراسة للعالم المحسوس فحسب، والعلوم الحديثة ليس لها طابع معرفيٌّ في الإطار العام بالبحث عن الغاية أو الهدف، وإنما هي علوم نفعية في أقصى الدرجات، وهذه القيمة ليست إلا قناعاً يحافظ على العقلانية الباطلة تحت غطاء نفعي.
إن اجتياح أفكار الحضارة الغربية للعالم -برأي رينيه- ليس أمراً نهائيّاً مستمرّاً، وإنما هي "فوضى" في مسار التاريخ، وسبب انتشار هذه الفوضى هو محاولة الغرب اختراق العالم برؤاه هذه ومحاولته أن يجر البشرية جمعاء معه في سقوطه، إلا أن هذا لن يتحقق ما دام الإسلام يقدّم هديَه للناس في وجه روح العالم الحديث "الشيطانية" -كما يسميها رينيه.
لماذا؟
يكتب رينيه بلغة كثيفة المعنى والصياغة، وكتبه لن تعطينا الحل الناجز بكل تأكيد، إلا أنها إطار مهم جدّاً لفهم الحضارة الغربية التي جعلت العلم طريقاً للمنفعة المادية وتكديس الثروة وإخماد الروح الدينية في العالم المعاصر.
وهنا نسأل لماذا كانت المنابر تقدّم للعديد من المفكرين مثل جاك دريدا وميشيل فوكو ليقدموا نظرياتهم التفكيكية تحت أسماء مختلفة كـ"حفريات المعرفة"، في حين يغطّى على أفكار عبد الواحد يحيى وإنجازاته، الذي فكّك في كتبه نفس الأسس التي بحثها فوكو، أي السلطة وأسس الحضارة والمفاهيم. وهذا ليس سؤالي فقط بل سؤال مفكرين غربيين كبار مثل وائل حلاق الذي اتهم دراسات الاستشراق بمنع آراء عبد الواحد من الانتشار.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.