ذلك لأن المجتمعات الإسلامية ناضلت في بداية العصور الحديثة للحصول على استقلالها في ظلّ الدولة القومية، لكن هذه الدولة كانت بحدّ ذاتها مؤسسة من مؤسسات الحداثة، فما إن بدأت فترة الاستعمار والاستقلال من بعد ذلك حتى أفاق المفكرون الإسلاميون على أسئلة الحداثة، وبينما كانوا يحاولون فهم الحداثة صدمهم ما بعد الحداثة، وها نحن أولاء الآن نحاول على جبهات الحداثة وما بعدها.
ليست المرة الأولى...
إن صدمة الحداثة وما بعدها وصدمات كتلة المفاهيم الأخرى التي جاءت مع هذه الفلسفات ليست بالصدمة الأولى التي عاشها المسلمون، بل لقد مر على الإسلام كتاريخ فكري صدمات فكرية وسياسية وعسكرية على امتداد فترة ألف سنة، لكن الصدمة الأولى والمهمة في تصورنا هي صدمة "الحداثة" -إن صح التعبير- التي واجهها المسلمون بعد فتح أراضي العراق وفارس والشام، حيث واجهوا ثقافات وفلسفات متأصلة في تلك الأراضي، وهنا نطرح سؤال مقالنا: كيف واجه المسلمون أسئلة "الحداثات" التي عاشوها؟ وكيف يمكننا أن نواجه ما يمكننا أن نراه من حداثات أو ما بعدها؟
العلماء في العراق.. محاولات استيعاب الجديد للتفكير فيه
وصل المسلمون إلى أراضي العراق وإيران فاتحين لها، ومع تحقُّق نوع من الاستقرار الاجتماعي بدأ المسلمون تَعرُّف طبيعة المجتمع الجديد الذي كان مليئاً بالحراك الفكري والفلسفي العميق.
في هذا الجو العميق وُلد الفقه بمعنى التفكير في الواقعة وتحليلها للوصول إلى حكمها الشرعي، كذلك ظهرت حركات متنوعة في الكلام لتقديم تصوُّراتها عن الله والإنسان وفق فهمها للنصوص الدينية.
ولكن من أجل هذا لا بد من تطوير أصول للتفكير الفقهي والكلامي مع ضرورة فهم طبيعة المجتمع وأصوله. وهنا يمكن أن نقول إن الدين والنصوص الدينية قد انتقلت إلى طور جديد، وهو طور اكتسابها صفة العلوم والنظريات، بتعبير آخر لم تبقَ النصوص مجرد فتوى جاهزة، بل أصبحت بمثابة المادة الأولية التي يجب أن تخضع للدراسة أولاً لفهمها وفق الأصول الفكرية والفقهية التي سيتم تطويرها في نهايات القرن الأول وبدايات القرن الثاني الهجري.
في المقابل بقيَ قسمٌ آخر من العلماء المسلمين المقيمين في الحجاز ملتزماً النصوص كما هي لأن الواقع الاجتماعي عندهم تقريباً على حاله دون تغيير مشابه للتغيرات في المجتمعات الأخرى.
وفي هذه الظروف التاريخية والاجتماعية ظهرت مدرسة أهل الرأي في مقابل مدرسة أهل الحديث، إذ تميزت مدرسة أهل الرأي بتفكيرها الفقهي في النص بعيون مختلفة ورؤى مختلفة، بخلاف مدرسة أهل الحديث التي حاولت جاهدة التمسُّك بالنص.
من طرف آخر كان الكلام يتطور في داخل مدرسة أهل الرأي، يتقدّم في تطوير نظرة متكاملة عن الله والإنسان والمسائل الأساسية المتعلقة بالمجتمع، فظهرت مدارس علم الكلام المختلفة في محاولة لحلّ إشكالات متعددة بدءاً من مشكلة مرتكب الكبيرة إلى مسألة الحرية والإرادة والقضاء والقدر.
تطوير أدوات جديدة للتفكير الفقهي والكلامي
في إطار التفكير الفقهي في مدرسة أهل الرأي تطورات يلاحظها المتابع في الأدوات الفقهية التي أوجدوها، فغدا الحديث عن أدوات ساعدت جداً على تطوير مواجهة الواقع وكان على رأس هذه الأدوات القياس والاستحسان ويضاف إلى ذلك المصالح المرسلة.
ولكل أداة دور في تطوير نظرة لفهم الواقع من طرف وتجاوزه من طرف آخر، فالقياس يراعي استيعاب المسائل المعاصرة داخل نظام واسع الحدود من الأحكام، أما الاستحسان فيراعي المقاصد العامة والقواعد الكلية للدين مع ملاحظة جانب التيسير، في حين أن المصالح المرسلة تراعي جانب التسهيل للناس.
كذلك بدأت هذه المدرسة التفكير في نصوص الوحي وأقامت علاقة هرمية بين النصوص والأدلة، إضافة إلى فهم النصوص داخل شبكة متعددة من المناظير قائمة على ملاحظة مقصده وسياقه وعلاقاته البينية إضافة إلى سؤال العموم والخصوص من النصوص.
من طرف آخر فإن حركة علم الكلام التي بدأت على شكل أسئلة عن وقائع معينة قد تطورت خصوصاً مع ظهور مقاربات جديدة. ومع عدم الاتفاق مع توجهات بعض هذه المدارس فإن للمدرسة الاعتزالية دوراً مهمّاً في مواجهة حداثة عصرها وردّ الشبهات وتطوير نظام في الاستدلال العقلاني للمسائل الاعتقادية.
وهنا لا بد من القول إنه لا يمكن لأي نظام فقهي أو أخلاقي التطور إلا في ظلّ نظام كلامي متكامل. والكلام هنا هو التصور الكلي عن الله والإنسان والعلاقة بينهما. لقد وفرت النقاشات الكلامية التي دارت في ذلك الوقت والتطورات في التصورات الكلامية الأرضيةَ لتطوُّر التفكير الفقهي والأخلاقي.
البعيد عن الجديد لا يتطور
لكن في المقابل كان أهل الفقه في الحجاز بعيدين عن هذه التطورات فبقوا ملتزمين أكثر النصوصَ التي بين أيديهم. ولذلك بقي الحراك الفكري المتمثل في التفكير الفقهي والكلامي متراجعاً عن الحراك في العراق. ضمن النقاشات التي دارت بين المدرستين يمكن ملاحظة أن مدرسة أهل الرأي تبرز سبب ميلها إلى هذه المنهجية التي تبنّتها ببيان أن الواقع الاجتماعي مختلف عن واقع الحجاز الذي ما زال محافظاً.
الحنفية واستشراف المستقبل: الفقه الافتراضي
اشتهرت الحنفية بالتفكير الفقهي كونهم الوارثين الأساسيين لمدرسة أهل الرأي. امتاز الحنفية بما يمكن أن نسمّيه الفقه الافتراضي، إذ كانوا يفكرون في مسائل عدة غير واقعية مقيمين لها أساسها النظري والفقهي، وهم عندما كانوا يمارسون هذا الأمر أبرزوا مقاربتهم الفقهية والأصولية.
لقد اشتهر الحنفية بفقه "أرأيت؟"، يعني "ماذا تقول لو حصل كذا وكذا؟". هذه النظرة وإن لقيت استهجاناً من قبل البعض وبخاصةٍ معارضوهم، فإنها في الحقيقة ستُغنِي الفكر الفقهي، وهو من نوعية الاستعداد النفسي.
ولنقرأ معا هذه القصة: لما دخل قتادة رحمه الله الكوفة قال: "والله الذي لا إله إلا هو ما يسألني اليوم أحد عن الحلال والحرام إلا أجبته"، فقام إليه أبو حنيفة رحمه الله فقال: "يا أبا الخطاب، ما تقول في رجل غاب عن أهله أعواماً فظنّت امرأته أن زوجها مات فتزوجت، ثم رجع زوجها الأول، ما تقول في صداقها؟ فقال قتادة: "ويحك! أوقعت هذه المسألة؟"، قال: "لا"، قال: "فلمَ تسألني عما لم يقع؟"، قال أبو حنيفة "إنَّا نستعدّ للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه". والحال أن مثل هذه الوقائع بدأت تظهر وخصوصا مع فترات الحروب هنا وهناك.
نشاطات الترجمة في بيت الحكمة.. نقل المعرفة ونقدها للاستثمار فيها
على صعيد آخر، بدأت أعمال الترجمة في فترة مبكرة من تاريخ الحضارة الإسلامية، وتمثلت ذروة أعمال الترجمة في بيت الحكمة الذي أنشأه الرشيد وبلغ عهده الذهبي في عهد ولده المأمون، إذ كان هذا المركز مكاناً مهماً للترجمة والبحث، تُرجمت فيه أعمال الفلسفة اليونانية.
ويقول الجغرافي الرحالة أبو الحسن المسعودي (283-346 للهجرة) في كتابه "مروج الذهب"، إن الخليفة أبا جعفر المنصور (95-158 للهجرة/712-775 للميلاد) أمر بعمل ترجمات كثيرة من اللغات الأجنبية إلى العربية، ومنها الأعمال القديمة لكبار العلماء الهنود والفرس واليونان. وهو أول خليفةٍ تُرجمَ له من اللغات الأعجمية إلى العربية. وكان لهذه الترجمات أثر في الحركة الفلسفية الإسلامية وتأثيراتها على محيطها الجغرافي.
لم يبقَ المسلمون ومفكّروهم مما سبق منعزلين، والأمر الثاني أنهم طوّروا أدوات خاصة بهم مستفيدين من الواقع ومتفاعلين معه، وطوّروا في ذلك أدوات تمثّلت في فهم الواقع واستيعابه، ثم العودة إلى النصوص للتفكير فيها وفهم ارتباطاتها، ثم تطوير أدوات جديدة للاستيلاد من النصوص، والتفكير للمستقبل، وختاماً في الاستفادة من الآخَر وفكره، وإن كان من واجب علينا فهو فهم الحداثة التي نعيشها، وهذا الفهم يجب أن يكون عميقاً لا سطحياً، وأن نؤسّس أقساماً يُدرس فيها "الاستغراب" في مقابل "الاستشراق"، وتطوير اجتهادنا الفكري والفقهي، وإيلاء اهتمام خاصّ لعلم استشراف المستقبل.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.