هذه المصالحة لم تأتِ من فراغ، بل أتت استجابةً للتغيرات المحتملة التي ستنتج عن وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض الأمريكي. هذه التغيرات عبّرَت عنها تصريحات بايدن التي أوضحتها حملته الانتخابية، والتي حملت تهديدات لكل من السعودية ودولة الإمارات، بما يخصّ الحرب في اليمن، وموضوع تصفية جمال خاشقجي، وإمكانية عودة الدفء إلى العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، وأثر ذلك في التوازن الإقليمي، وما ينتج عن هذه العلاقات من تهديدات للسعودية ودول الخليج العربي.
المصالحة السعودية-الإماراتية-القطرية فتحت الباب لتقاربات أخرى بين هذه الدول وتركيا، وظهر ذلك في تصريحات مصرية حول الجرف القاري التركي في البحر المتوسط، كذلك ظهرت نية حسنة من السعودية التي سارعت لتقديم المساعدات للشعب التركي بعد وقوع زلزال إزمير في الربع الأخير من عام 2020، وما تلاه من تصريحات إيجابية تركية في نفس الاتجاه.
ولكن، هذه التقاربات الخجولة، هل يمكن أن نطلق عليها تسمية "المصالحة"؟ وهل الخطر القادم نحو هذه البلدان أكبر من حجم الخلافات بينها؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، ينبغي معرفة جذر الخلافات بين مصر والسعودية من جهة، وتركيا من جهة أخرى، وهذه المعرفة -لا شكّ- تمكّن من معرفة مدى احتمالية التقارب بينهم، من عدمه.
على الجانب التركي قال إبراهيم قالن، المتحدث باسم الرئاسة التركية، إن بلاده "ترغب في إعادة العلاقات مع مصر"، هذا التصريح أعلنه قالن في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2020.
بعد تصريحات قالن صرّح وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو قائلًا: "تلقينا بإيجابية نشاط مصر في التنقيب ضمن حدودها البحرية في البحر المتوسط، وفق احترام حدودنا"، مضيفاً أن "مصر احترمت الحدود الجنوبية لجرفنا القاري، حتى بعد توقيع اتفاق مع اليونان".
هذه التصريحات تكشف عن عدم انقطاع خيوط التواصل بين مصر وتركيا، وأن تفاهمات جديدة قد تقود إلى تقارب وتعاون فعّال، سيما أن تقارباً مصرياً-قطرياً قد بدأت خطواته، وهذا معناه أن احتمال التقارب المصري التركي مسألة وقت قصير، فتركيا حليف رئيسي لدولة قطر، وتقارب الأخيرة مع مصر سيساهم في تقارب محتمَل بين حليفتها تركيا ومصر.
ولكن جذر الخلاف بين الدولتين (مصر وتركيا)، تقف خلفه خلافات ذات طابع آيديولوجي-سياسي. فتركيا وقفت ضد عزل الرئيس الراحل محمد مرسي عن طريق انقلاب عسكري، هذه النقطة أدّت إلى تناقضات وصراعات سياسية بين البلدين، مما سمح لأطراف إقليمية كإيران وإسرائيل بشغل مساحة تدخُّل أوسع في حياة شعوب ودول المنطقة.
إن كل الممارسات السياسية اللاحقة لمصر تمّ بناؤها على أرضية هذا الخلاف، فموقفها من الدور التركي المناصر للثورة السورية دفعها إلى رفض هذا الدور، لا بل محاولة التدخل بشؤون قوى الثورة السورية، عبر منصة القاهرة، التي تتلقى دعماً مصرياً واضحاً.
إن الخلاف المصري-التركي حول ليبيا له ذات الجذر، ولهذا يبدو أن الخطر المحدق بالمنطقة من قوى إقليمية أخرى (إسرائيل وإيران) يحتاج إلى تصحيح أولويات سياسية، على حساب رؤى آيديولوجية، هذه الأولويات تتحدّد بضرورة فصل التدخل الآيديولوجي بنطاق المصالح الحيوية العليا للدولة، وهذا ينطبق على كل الأطراف في هذه المعادلة.
إن إعادة النظر في السياسة التركية السابقة، المبنية على جذر أيديولوجي بنسبة ما، يتطلب النظر لهذه السياسة عبر مفهوم المصالح الحيوية للدولة، وهذا يفتح الباب أمام تركيا، لتنسج أوسع علاقات حيوية، مع فئات اجتماعية، واقتصادية،، وثقافية، وعلمية، عربية واسعة. مثل هذه السياسة هي حاجة موضوعية متبادلة، شرط نديتها واحترامها للخصوصية الوطنية في كل حالة على حدة.
إن تجديد اتفاقية التجارة الحرّة بين مصر وتركيا، التي انتهت عام 2020، يبدو مؤشراً جدياً على التقارب بين الدولتين، وليس مجرد التفاهم بينهما.
أما بالنسبة للعلاقات السعودية التركية، فهناك مسار آخر للخلافات التي سادت بين البلدين، ولعل منها مساندة تركيا للحكومة المعترف بها أممياً في ليبيا، وكذلك مساندة السعودية لأعداء تركيا في سوريا (قوات PYD)، والوقوف مع اليونان ضد تركيا بمسألة الخلاف حول التنقيب في مياه المتوسط.
ولكن الخطر الأكبر، الذي تخشاه المملكة العربية السعودية اليوم، أتى من موقف ملموس اتخذته الإدارة الأمريكية الجديدة، حيث عمل جو بايدن، على إنهاء دعم بلاده للحملة العسكرية، التي تقودها الرياض في اليمن، والعمل على تقليص مبيعات السلاح للرياض.
إن تفرّج الأمريكيين على قيام إيران بدعم الحوثيين، لضرب المناطق السعودية الآهلة بالسكان، وضرب المنشآت الحيوية السعودية، إنما يدلّ على تغيّر عميق تضمره إدارة الديمقراطي بايدن نحو السعودية، هذا التغيّر، يرتبط بمحاولة تقديم مكافآت أمريكية للإيرانيين، لجرّهم إلى طاولة التفاوض حول النووي الإيراني الذي ألغى اتفاقه السابق دونالد ترمب.
ولكن المعطيات على الأرض تغيّرت عما كانت عليه أيام أوباما، فالرئيس بايدن أمام واقع تغيّرت إحداثياته، ولا ينفع بايدن استخدام السياسات ذاتها مع هذه المتغيرات، وهذا معناه، أن مصالح الأمريكيين، ليست كما يحاول البعض تصويرها، بأنها مع الإيرانيين، فكلما مرّ وقت دون حسم الملف النووي الإيراني، فهذا معناه تراجع ملموس للدور الأمريكي في المنطقة في المستقبل القريب، حيث سيجدون أنفسهم أمام قنبلة ذرية إيرانية حقيقية، مما يعني تقلّص مصالحهم، أو اقتسامها مع الإيرانيين في المنطقة.
إن الخطر الإيراني المحتمل على السعودية ودول الخليج، يحتاج بالضرورة إلى قوة جديدة، تعدّل في ميزان القوى مع هذا الخطر، سيما مع تراجع الدور الأمريكي الحامي لهذه الدول، وهذا التعديل ممكنٌ، مع علاقات جديدة، وأكثر توطداً، بين السعودية ودول الخليج العربي من جهة، وبين تركيا من جهة أخرى، سيما أن تركيا الحالية، صارت من الدول التي تمتلك قوة عسكرية فعالة، ظهرت نتائج فعلها في أذربيجان وليبيا وسوريا، وهذا معادل حيوي لمصلحة تقارب سعودي خليجي تركي.
إن تغيير اتجاهات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، يحتاج بالضرورة، إلى قيام تعاونٍ، يستند إلى تقارب بين ثلاث دول في المنطقة، هي مصر والسعودية وتركيا، هذا التقارب يعني تجميعاً حيوياً لقوى سياسية واقتصادية وعسكرية لأهم ثلاث دول في الإقليم، مما يغيّر من سياسات مجانية، تدفع قيمتها أنظمة عربية تتوهم بحماية اسرائيل لها، في وقتٍ، ترهن اقتصادها، ومواقفها، لمصلحة أجندةٍ اسرائيلية ضد شعوب المنطقة.
إن قيام تقارب حقيقي مصري سعودي تركي، هو تقاربٌ لمصلحة شعوبنا العربية والإسلامية، هذا التقارب يجب أن يبتعد عن التدخل في الشؤون الداخلية لهذه البلدان، وأن يرتكز على تطوير تنميتها وقدراتها الدفاعية، لتواجه الأطماع الخارجية، وألا يبنى على نسق أيديولوجي، هذا التقارب، يسمح بحل لقضايا الصراعات في المنطقة العربية، ويدفع الولايات المتحدة وغيرها إلى إعادة حساباتها السياسية نحو بلدان المنطقة، مما يفتح آفاقاً لتغييرات إيجابية، تحتاج إليها دول المنطقة وشعوبها.
فهل تذهب الدول الثلاث (السعودية ومصر وتركيا) إلى ما هو أبعد من تفاهمات مؤقتة، أو تقاربات طارئة، بما يخدم شعوب المنطقة، ويجعلها واحة تنمية وسلام، أكثر من بقائها مرتعاً لصراعات وأطماع الآخرين؟
إنها الضرورة التاريخية، فهل نستيقظ قريباً على حقيقتها؟
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.