تابعنا
من المعلوم أنّ البحر الأحمر مرتبط بشدة بمفاهيم الأمن القومي الإسرائيلية لا سيما المنطقة الجنوبية من الكيان، وتحديداً ميناء إيلات وخليج العقبة وصحراء النقب بحيث تشكّل كلها وحدة أمنية مرتبطة بالاستراتيجية القومية الإسرائيلية.

فتحت معركة "طوفان الأقصى" جميع العيون الاستراتيجية الإسرائيلية، وفعّلت جميع النطاقات الدفاعية لمواجهة أي طارئ استراتيجي يمكن أن يغيّر بيئة النشاط العسكري المشحون في الحرب المفتوحة على قطاع غزة، والتراشق الناريّ في الشمال على الحدود اللبنانية، وخط النار البعيد المحتمل قدومه من إيران أو العراق أو البحر المتوسط أو سوريا والأردن.

وبدخول أنصار الله الحوثيين على خط المعركة الاستراتيجي من خلال قرارها استهداف القطع البحرية الإسرائيلية العابرة في مضيق باب المندب حتى توقف "إسرائيل" عدوانها على قطاع غزة فإنّ الاستراتيجية الإسرائيلية دخلت في اختبار صعب لعدة اعتبارات:

منها جغرافية اليمن البعيدة عن الكيان الإسرائيلي وضعف المعلومات الاستخبارية عن إمكانات الحوثيين وطرائق إمدادهم. ومنها تعدُّد القوى الدولية والإقليمية والمحلية العاملة في البحر الأحمر سياسياً وعسكرياً وأمنيّاً، وتداخُل مصالحها الأمنية والاقتصادية بحيث لا يمكن لإسرائيل أن تستفرد بقراراتها وسلوكها.

ومنها حالة الإجماع الإقليمي على منع تحوّل البحر الأحمر إلى ساحة صراع جديدة خصوصاً أنّ معظم الدول المُشاطِئة للبحر تعاني اضطراباً سياسياً واختلالاً أمنياً وسيولة لا يمكن التنبّؤ بمساراتها كالسودان واليمن وإريتريا والصومال، وأي توتّر جديد سيعقّد الوضع أكثر مما هو معقّد.

ومن المعلوم أنّ البحر الأحمر مرتبط بشدة بمفاهيم الأمن القومي الإسرائيلية لا سيما المنطقة الجنوبية من الكيان، وتحديداً ميناء إيلات وخليج العقبة وصحراء النقب بحيث تشكّل كلها وحدة أمنية مرتبطة بالاستراتيجية القومية الإسرائيلية، وتندرج تحت هذه المفاهيم استراتيجيات سياسية وعسكرية واقتصادية وأمنيّة واجتماعية حساسة تعمل وفق معادلات متغيّرة تتفاوت بين الصراع والتنافس والتعاون الحذِر.

وأكثر ما تخشاه إسرائيل أن يتراجع حضورها الاستراتيجي أكثر بسبب عجزها عن تركيب سياسة مستقلة لها في البحر الأحمر نظراً لإصرار الولايات المتحدة على قيادة هذا الملف بنفسها، خصوصاً أنّ إسرائيل عجزت خلال السنوات العشرين الماضية عن بناء نفوذها الاستراتيجي في البحر الأحمر.

وتشكّل الاختراقات المتكررة للروس والصينيين والإيرانيين شواهد متجددة على هذا العجز، حيث محاولاتهم الحثيثة لتحديد منطقة نفوذ استراتيجية لهم هناك.

وتنظر الولايات المتحدة بارتياب شديد إلى قدرة حلفائها الإسرائيليين على الولوج إلى حوض البحر الأحمر والتأثير فيه، إذ لم تستطع إسرائيل أن تُبقِي نفوذها على أي نقطة ارتكاز بَحرية خارج حدودها، بل إنّها فقدت حضورها في إريتريا منذ ربع قرن.

ولم تستطع واشنطن إيجاد تموضع آخر جنوبي البحر الأحمر بعد فشلها في الوصول إلى اتفاق مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، لتأمين حضور دائم لها في الجزر الإريترية عقب استيلائه على أرخبيل جزر حنيش.

كما لم تستطع إسرائيل بناء مسار استراتيجي بَحريّ مع حلفائها الإثيوبيين الذين يبحثون عن مَنفذ لهم إلى البحر، وطلبوا مراراً من الإسرائيليين مساعدتهم على تأمين احتياجهم الاستراتيجي بلا فائدة.

واستعاض الإثيوبيون بالفرنسيين وبجمهورية أرض الصومال التي أعلنت انفصالها لتنفيذ رؤيتهم الاستراتيجية بتحقيق حضور بَحريّ دائم لهم يفكّ عنهم العزلة الداخليّة بعد نجاحهم في فرض مشروعهم القومي ببناء سدّ النهضة وتشغيله رغم شدة الاعتراض المصريّ.

وقد أظهر الحِراك الحوثيّ إسرائيلَ في حالة ضعف شديد نظراً لتقييد قدرتها على الردّ، وهذا يضاف إلى ما أصابها نتيجة أحداث يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول وتآكل الردع الاستراتيجي الإسرائيلي إلى مستويات خطيرة.

وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تراجع الاعتماد على إسرائيل في المنطقة، وإخراجها من الحسابات الكبيرة خصوصاً في ظل انغماسها في ورطة معارك غزّة وتداعياتها القانونية والسياسية والأمنية، ورغبة دول حوض البحر الأحمر في فكّ ارتباطها بإسرائيل لِعِظَم العبء المترتب على استمرار العلاقة معها، وشدّة الاستفزاز الرسميّ والشعبيّ من أيّ حضور لافت لها.

وهذا ما يفسّر فشل الولايات المتحدة في تكوين تحالفات جديدة في البحر الأحمر بسبب قناعة الدول الكبرى بأنّه يمكن عدم التورط في إشعال المنطقة وتهديد الملاحة البحرية من خلال الضغط الحقيقي على إسرائيل لتتوازن في ردود أفعالها المتطرفة.

كما أنّ من شأن الدخول إلى هذه التحالفات الطارئة أن يُعدّ تدخلاً مباشراً في الحرب الدائرة، وهو ما لا ترغب كثير من الدول أن تضع نفسها فيه إلا في سياقٍ توافقيّ مع دول المنطقة كلها.

وهذا سيجعل إسرائيل أكثر اعتماداً على الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة تعدّها على خطها الدفاعي الجنوبيّ الأول، وهذا أيضاً خصم استراتيجيّ عليها، ومسٌّ مباشر بسيادتها، وهذا سيحرمها من امتيازاتِ كونِها لاعباً استراتيجياً كان يحافظ على أمن البحر الأحمر، ويزيل التهديدات الإرهابية، ويمنع قيام تحالفات عسكرية قوية فيه، ويمنع الوصول الاستراتيجي لروسيا والصين إلى المنطقة.

وكانت خشية إسرائيل من التخوفات الاستراتيجية المصرية من أي نشاط إسرائيلي في منطقة البحر الأحمر، عاملاً أساسياً في تراجع النفوذ الإسرائيلي في البحر الأحمر.

حتى إنّ قوتها العسكرية البحرية المنتشرة في البحر الأحمر تعدّ في درجة تالية للقوة البحرية المصرية التي تحظى أيضاً بتنسيق عالٍ مع القوات البحرية السعودية، ولديها تنسيق أفضل مع السودان واليمن وإريتريا وجيبوتي والصومال، ونشاطها يحظى بقبول أفضل قليلاً من النشاط الإسرائيليّ.

وهناك خشية إسرائيلية حقيقية من تعطّل نشاط مينائها الكبير على خليج العقبة في إيلات، وشلل الحركة فيه إلى مستوى يزيد على 80% من النشاط المعتاد، مع استمرار تراجع النشاط التجاري وحركة الصادرات والواردات فيه.

وتتوجّس تل أبيب من استمرار توقف الشركات البحرية الكبرى والمتوسطة عن التعامل مع الميناء، وتأخّر عودتها بعد ذلك إذا انتهت الحرب، وما يترتب على ذلك من تداعيات اقتصادية وخسائر لجميع الأطراف، واستمرار ارتفاع قيمة التأمين البحري واستئجار الحاويات، وعزوف الشركات البحرية الصغرى عن العمل نهائياً واتجاهها إلى مناطق أكثر أمناً.

وهذا سيعني أيضاً تراجع الملاحة الإسرائيلية واستثماراتها وانهيار شركات الشحن والنقل الإسرائيلية متوسطة القدرة التي تعمل على طول السواحل الشرقية والغربية الإفريقية، واستطاعت بصعوبة بالغة أن تشقّ حضورها إلى المواني الإفريقية لكثرة القوانين المعرقِلة والتدخلات المرتبطة بالأمن والسياسة.

ولا يَخفى أنّ تعطّل الميناء الجنوبيّ يعني اختلالاً في واردات الطاقة والخامات والمواد الأساسية مما سيزيد الضغط على مواني البحر المتوسط التي تعاني أصلاً ضغطاً أمنياً لوقوعها على خط نار صواريخ القسّام من قطاع غزة ومن لبنان، واحتمال دخول حزب الله والجماعات العراقية على خط الجبهة البحريّ في أي وقت خصوصاً بعد تبني عدة عمليات من البحر منذ بدايات معارك "طوفان الأقصى".

كما أنّ هذا التوتّر ضرب بعض المشروعات الإسرائيلية الاستراتيجية الكبرى في مقتل خصوصاً مشروع قناة (البحر الأحمر - البحر الميت - البحر المتوسط)، إذ لم يعد هذا المشروع قابلاً للتسويق الإقليمي والدوليّ خصوصاً مع وجود بديل عريق وفاعل عبر قناة السويس المجاورة، والخشية من سلوك إسرائيل العسكريّ المتطرف الذي يؤلِّب المنطقة عليها دائماً ويزيد من عزلتها.

وترصد المراكز الأكاديمية المتخصصة في الدراسات الأمنية البحرية انخفاضاً كبيراً في معدلات الجريمة المنظمة التي كانت تهدد دول المنطقة، وحركة العصابات الدولية التي تتخذ من البحر الأحمر منطقة عمليات لها في المياه الدولية.

إذ تراجعت عمليات بيع الأسلحة غير الشرعيّ والبضائع المحظورة والمهرّبة، إضافةً إلى عمليات الصيد الجائر بآلاف السفن الصغيرة التي تعتدي على مياه الدول غير القادرة على حماية ثرواتها السمكية في المياه الدافئة التي تتكاثر فيها.

ويعود هذا التراجع إلى أنّ معظم هذا النشاط مرتبط إلى حدّ كبير بالنفوذ الإسرائيلي في البحر الأحمر، حيث تعمل فرق إسرائيلية نشطة في الممرات البحرية الوسطى، وعبر كثير من الجزر الفارغة البعيدة عن السواحل وعبر السفن الكبيرة التي تعمل محطاتٍ متنقلة توفّر بيئات مناسبة للقاءات وتوقيع العقود ودفع الأموال نقداً أو بنظام المعاوضة.

وتنشط القوات البحرية الإسرائيلية في تفعيل أنظمة الرقابة البحرية خوفاً من انتقال حرب العصابات إليها، خصوصاً في مجال تهريب السلاح إلى المقاومة الفلسطينية، إذ تتمتع هذه العصابات بشبكة علاقات داخل العصابات المحلية الإسرائيلية.

وتتعامل عصابات التهريب مع الأمر على أنّه صفقات تجارية بحتة خصوصاً أن السلاح في ظل الحرب ترتفع أسعاره، ويكثر الساعون إلى توفيره للمقاومة الفلسطينية عبر الأراضي المصرية أو من داخل الخط الأخضر لأسباب وطنية أو دينية أو ماليّة.

وفي العموم فإنّ أي محاولة إسرائيلية لمواجهة أنصار الله الحوثيين في اليمن سترتدّ سلباً على إسرائيل، وليس أمامها إلا أن تقدّم المساعدة والتسهيلات والخبرات للولايات المتحدة التي تبدو مترددة جداً في إشعال حرب جنوبي البحر الأحمر وتكتفي بالردود الموضعيّة.

ويرجع ذلك إلى إدراك الإدارة الأمريكية أنّها منطقة متشابكة معقّدة ذات ممرات خطرة يمكن اختراقها عبر آلاف سفن الصيد الصغيرة التي يمكن أن تتحول إلى قنابل موقوتة أو صواريخ موجهة إذا اندلعت الحرب هناك.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً