وطرح تساؤلات لقادته وكبار مفكّريه عن مدى صمودها أمام التحديات الداخلية والخارجية غير المسبوقة التي باتت تواجهها.
وقد أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك في مقال نُشر في هذه المناسبة بصحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى هذه التحديات والتخوفات، حينما استحضر تاريخياً بداية زوال مملكتَي اليهود على أعتاب العقد الثامن من عمرهما، ُمبدِياً تخوُّفه من أن يحيق هذا المصير بإسرائيل التي أبدت "قدرة ناقصة في الوجود السيادي السياسي".
ورغم أنه حاول تخفيف القلق الإسرائيلي من المستقبل بالقول إن "الاتجاه الذي يلوح في الأفق مذهل"، فإنه أكد أن إسرائيل تقع "في محيط صعب لا رحمة فيه للضعفاء"، محذّراً من "العواقب الوخيمة للاستخفاف بأي تهديد".
غير أن باراك لم يكن الأول الذي يسلّط الضوء على الوضع الذي تعيشه إسرائيل، فهو أصلاً استند إلى ما قاله رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو عام 2017: "سأجتهد لأن تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لكن هذا ليس بديهياً، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة (للشعب) اليهودي أكثر من 80 سنة، وهي دولة الحشمونائيم"!
ولعلّ من أقسى وأصعب التصريحات ما ورد على لسان المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس في مقابلة مع صحيفة هآرتس في 11 يناير/كانون الثاني 2019 من أن "إسرائيل مكان ستغرب شمسه وسيشهد انحلالاً أو غوصاً بالوحل، وخلال سنوات سينتصر العرب والمسلمون ويكون اليهود أقلّية في هذه الأرض، إما مُطارَدين وإما مقتولين، وصاحب الحظ هو من يستطيع الهرب إلى أمريكا أو أوروبا".
وننوه بأن التعبيرات المتشائمة التي تصدر عن البعض مثل موريس هي في الحقيقة محاولة للتحريض على الشعب الفلسطيني لمزيد من تهجيره والبطش به لتجنُّب مثل هذا السيناريو المخيف الذي يتحدث عنه.
ولا يسعنا هنا في هذه المساحة إيراد كل ما صدر من الجانب الإسرائيلي في ما يتعلق بالمستقبل المظلم للاحتلال، ولكننا نستطيع أن نتحدث عن العوامل التي تدفع قادة ومفكري إسرائيل إلى التحدث بلهجة متشائمة في هذا السياق.
ونؤكّد أن قيمة هذه العوامل ليست في النظر إلى كل واحد منها على حدة، بل من خلال أثرها التراكمي وتفاعل بعضها مع بعض.
خلافات عميقة
وربما يأتي في مقدمة هذه العوامل، الخلافات الداخلية ما بين اليهود الغربيين (الأشكيناز) أصحاب الثروة والنفوذ والمناصب، والشرقيين (السفرديم) الذين قدموا من الدول العربية وغيرها، وهم الطبقة الأدنى، إضافة إلى يهود الفلاشا القادمين من أثيوبيا كطبقة دنيا، وما يثيره ذلك من تمييز وطبقية وأحقاد وضغائن بينهم تعبّر عن نفسها في تقسيمات الأحزاب وأهدافها.
ورغم أن الخلافات السياسية حُسمت باتجاه رفض فكرة حلّ الدولتين مع الفلسطينيين، واستقر الأمر للموقف المتشدد لليمين من خلال حكومة شارون وما بعدها، وتلاشي شعبية حزب العمل المؤسّس للكيان، فإن الخلافات بين العلمانيين والحريديم المتدينين لا تزال قائمة، إذ يشكّل الحريديم مجتمعاتهم وقوانينهم الخاصة، ويرفضون الخدمة في جيش الاحتلال، كما رفضوا التزام التعليمات الصحية في أزمة كورونا، ما عزّز الشروخ في المجتمع الإسرائيلي.
أضف إلى ذلك تتنامى الخلافات بين سكان المدن والمستوطنين المتطرفين الذين تتباين نظرتهم للتعامل مع الفلسطينيين ومع القدس والمسجد الأقصى، ويسجلون ضغطاً كبيراً على الحكومة لاتخاذ مواقف أكثر تشدداً مع الفلسطينيين ومقدساتهم.
ودفع ذلك الرئيس السابق لجهاز الأمن العامّ (الشاباك) يوفال ديسكين العام الماضي إلى القول إن "إسرائيل لن تبقى إلى الجيل القادم"، مبرراً ذلك بـ"الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي تغيّر بالفعل جوهر إسرائيل، ويقدر لها أن تعرّض وجودها للخطر خلال جيل واحد، إذ يزداد الانقسام بين الإسرائيليين عمقاً، وأصبح الانقسام بين اليمين واليسار مهيمناً أكثر بكثير من الخلاف بين اليهود والعرب، كما أن انعدام الثقة بأنظمة الحكم آخذ في الازدياد، والفساد ينتشر في الحكومة، والتضامن الاجتماعي ضعيف".
ورغم أن الاحتلال يتباهى بقوة الاحتياط في جيشه، وسرعة استدعائهم، فإنه يعاني تراجُع التجنيد في الجيش بسبب رفض الحريديم، وضعف الإقبال من الشباب، حتى ارتفع عدد الحاصلين على الإعفاء النفسي من الخدمة منهم حتى 12%، وتفضيلهم الوظائف المكتبية، ورفض بعضهم الخدمة في الضفة المحتلة بسبب خوفهم على حياتهم من المقاومة، وهرب عدد غير قليل من وحدات قتالية في أثناء فترة الخدمة.
وقد تشكّل أزمة الطاقة البشرية في جيش الاحتلال التهديد الأساسي له، إن لم يكن لأمن إسرائيل عموماً.
وتكتسب المشكلة الديموغرافية نفس الأهمية، إذ إن تساوي تعداد الفلسطينيين مع اليهود على أرض فلسطين التاريخية، مرتبطاً بعدم التوصل إلى حلّ الدولتين يزيد التخوفات الإسرائيلية من التفوق العددي للفلسطينيين مستقبلاً.
ويرى بعض المفكرين الإسرائيليين أن الأفضلية الديموغرافية ستشكّل في النهاية ضغطاً دولياً غير محتمَل على إسرائيل، الأمر الذي سيجبرها على التنازل والاتحاد مع الأكثرية العربية" أو الاضطرار مكرهاً إلى حل سياسي لا يريده قادتها.
وقد حاولت إسرائيل تجاوز الحلّ السياسي من خلال التطبيع مع الدول العربية، ومحاولة فصل الفلسطينيين عن محيطهم العربي الداعم، إلا أن هذا التطبيع بقي في إطاره الرسمي دون الشعبي، كما أنه لم يوهن عزيمة الفلسطينيين في المقاومة بل زادهم إصراراً وعناداً تَمثَّل في السلسلة الأخيرة من العمليات الفدائية.
المقاومة ودورها
إلا أن المشكلة الأخطر التي تواجه إسرائيل داخلياً، هي تعزُّز الروح القومية الوطنية لدى فلسطينيي 48 وتزايد دورهم في النضال ضد الاحتلال، وهو ما كشفته معركة سيف القدس عام 2021 والعمليات الفدائية الأخيرة التي نفّذها فلسطينيو 48، فضلاً عن مشاركة هؤلاء بقوة وفاعلية من خلال النفير إلى المسجد الأقصى للدفاع عنه ضدّ انتهاكات الاحتلال.
وتشكّل عمليات المقاومة المستمرة، وفشل محاولات إجهاضها، العامل الأهمّ في تراجع مشروع الاحتلال، والشعور المتزايد لدى المحتلين بعدم الثقة بمستقبلهم في فلسطين.
ونشير هنا إلى التهديدات بالقتل التي أُرسلَت إلى رئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينيت وعائلته على خلفية اضطرار حكومته إلى الحدّ من اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى بسبب ضغوط المقاومة في غزة، ما أعاد المخاوف من حدوث اغتيال سياسي جديد على غرار ما حدث لرابين عام 1995 بعد توقيعه اتفاق أوسلو عام 1993.
وبلا شك، فإن استمرار ضغط المقاومة يعزّز التأثير السلبي للعوامل الأخرى، ويساهم في زيادتها، ويُضعِف حصانة إسرائيل أمام التهديدات الخارجية، لأنها تجعل الجيش منجذباً إلى مهمات أمنية متواصلة، على حساب التدريب والاستعداد الضروري لمواجهة التحديات في الساحات الخارجية.
ويختزل رئيس الكنيست ميكي ليفي بعد عملية إلعاد الأخيرة أبعاد المخاوف الإسرائيلية حينما يقول: "أصبح عيد الاستقلال السعيد هذا فجأة حزيناً ورهيباً، وهذا يعكس ثمن العيش في هذه البلاد".
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.