فلم يعد مواطنو إسرائيل يشعرون بالأمن في شوارعهم، بعد أن ضرب مقاومون فلسطينيون (ثلاثة منهم جاؤوا من الضفة الغربية) بكل جرأة وإقدام خطة الاحتلال الأمنية التي أطلق عليها "كاسر الأمواج"، إذ اخترقوا كل حواجزه وإجراءاته الأمنية، ووصلوا إلى أهدافهم في بئر السبع والخضيرة وبني براك وتل أبيب، فيما نجح منفذ هجوم ديزينغوف في الصمود 9 ساعات في مواجهة حملة أمنية غير مسبوقة بتاريخ الكيان، استدعى فيها الاحتلال نخبة فرقه الأمنية العاملة في جيشه بالضفة الغربية!
نهوض في الضفة
وقد برزت عناصر جديدة في الصراع، كانت ضامرة أو غير بارزة في السابق، أهمها الصعود القوي لإرادة المقاومة في الضفة المحتلة فضلاً عن تجددها في القدس، لتضرب بذلك الخطة التي قادها الجنرال الأمريكي كيث دايتون عام 2005 لتصفية المقاومة الفلسطينية من خلال خطة تدريب وتأهيل مركَّز للأجهزة الأمنية لتكون عقيدتها هي إحباط عمليات المقاومة وملاحقة المقاومين باعتبار ذلك مصلحة لمن أطلق عليه "الفلسطيني الجديد"، في ظل رعاية محمود عباس الذي تسلم السلطة خلفاً لعرفات.
وقد نجحت أجهزة السلطة بالتعاون مع الاحتلال في تجريف المقاومة، جنباً إلى جنب مع خطط شَغْل الفلسطيني بلقمة عيشه، وتكبيله بقروض البنوك ووظائف السلطة، وإدماج كوادر فتح في الأجهزة الأمنية. لذلك شهدت الضفة على مدى نحو 10 سنوات ضعفاً في عمليات المقاومة، قبل أن تبدأ موجات الهبات الشعبية والعمليات الفردية منذ عام 2015 في القدس، لتصل إلى عز عنفوانها في 2022 مع استعادة تنظيمات المقاومة أو بعضها على الأقل عافيتها.
وتشير العمليات الفدائية الأخيرة، وما أعقبها من مواجهات عنيفة في عدد من مدن الضفة وعلى رأسها جنين، إلى اتساع حجم المشاركة الشعبية وخصوصاً من فئة الشباب في التصدي للاقتحامات الإسرائيلية.
ومن المهم الإشارة إلى أن الجيل الجديد الذي يقود المواجهات الآن لم يعايش مرحلة الضغط الأمني بعد حملة السور الواقي الإسرائيلية في 2002، كما تشكل وعيه في سنوات تراجع دور السلطة الفلسطينية وانتهاء عملية التسوية السياسية، جنباً إلى جنب مع سعار المستوطنين في الأراضي المحتلة وبطش قوات الاحتلال، الأمر الذي عزز دوافع المواجهة مع المحتلين دون اكتراث بالسلطة التي بات الشباب ينظر إليها كعائق أمام المقاومة.
ولذلك كانت جرأة الفلسطينيين في التصدي لقوات الاحتلال كبيرة وملموسة، واستعداداتهم للتضحية بأنفسهم في سبيل قضيتهم عالية، وهو ما تحدث عنه المراسل العسكري الصهيوني أور هلير للقناة العاشرة بعد أن رافق قوات الاحتلال في اقتحام جنين في 9/4/2022، حينما قال: "لم أصدق أن أكثر من 1000 شاب يلقون الحجارة والحارقات ويهتفون ضدنا، وأن أحد الفتية ضرب باب الجيب العسكري، وقال: افتح، افتح، وبيده حجر"!
وعلّق بالقول: "غريب جداً هذا الجيل، لا يخاف أبداً رغم إصابة سبعة منهم بالرصاص الحي، وكثرة الجنود، أكثر من 50 دورية وجرافة، دخلنا ولم نُرعب هؤلاء!".
وبعد الاقتحام الإسرائيلي الأخير للمسجد الأقصى، نشرت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لشبان يبتسمون في أثناء نقلهم في باص اعتقال في القدس، فيما انتشر فيديو آخر لشبان يتسابقون في دفع أجرة التاكسي الذي هو في الحقيقة سيارة شرطة إسرائيلية تعتقلهم! في دلالة على استهتار بقوات الاحتلال، وجرأة غير معهودة على المحتلين من قبل الشبان الفلسطينيين.
ويقول الكاتب والخبير الأمني الإسرائيلي يوسي ميلمان، في مقاله في "ميدل إيست آي" في 31/12/2021، إن الخطر الأكبر الذي ينبغي لإسرائيل التنبه له، لن يكون قادماً من إيران، بل من الضفة الغربية.
والقدس تفجر الصراع
وإضافة إلى ما سبق، فقد شكّلت ولا تزال هبات القدس منذ انتفاضة السكاكين في العامين 2015 و2016 إلهاماً كبيراً للمقاومة في الضفة وغزة، ليس بسبب ما تتمتع به المدينة من مكانة مقدسة فقط، وإنما أيضاً بسبب تضحيات أبنائها لمنع تدنيس المسجد الأقصى ومواجهة محاولات تهويد المدينة.
وقد نجحت هبة باب الأسباط 2017 في إجبار الاحتلال على إزالة البوابات الإلكترونية التي زرعها لتفتيش الفلسطينيين، فيما تمكنت هبة باب الرحمة في فبراير/شباط 2019 من إعادة فتحه والصلاة فيه. وفي 13 أبريل/نيسان 2021، اندلعت هبة باب العامود التي تمخضت عن اضطرار الاحتلال إلى إزالة السواتر الحديدية التي نصبها على درجات هذا الباب.
وأسفر تصدي الفلسطينيين البطولي لاقتحام جماعة المعبد اليهودية المتطرفة للمسجد الأقصى في 28 رمضان 2021 عن ارتقاء عدد من الشهداء ومئات الجرحى، الأمر الذي دفع المقاومة في غزة إلى التدخل في ما عُرف بمعركة سيف القدس، التي أجبرت الاحتلال على التراجع عن مخططاته في القدس، وأكدت التلاحم التاريخي للشعب الفلسطيني، وعززت دور القدس في الصراع، وشحذت بقوةٍ الإرادة الشعبية الفلسطينية للتصدي للاحتلال.
وحققت "سيف القدس" حالة ردع للاحتلال أسفرت مؤخراً عن اضطراره إلى منع المستوطنين من ذبح القرابين في المسجد الأقصى بمناسبة ما يسمى عيد الفصح اليهودي، وذلك بعد تهديدات المقاومة في غزة.
جنين صنو غزة في المقاومة
ورغم أن كل المدن الفلسطينية تشارك في مقاومة المحتل، فإن جنين قدمت نموذجاً متميزاً ومتقدماً، إذ تصدى مقاتلو الفصائل وعلى رأسهم مقاتلو الجهاد الإسلامي في وضح النهار لقوات الاحتلال، فيما شكّل الشبان دروع حماية للمقاتلين والمدينة، وردُّوا قوات الاحتلال على أعقابها أكثر من مرة، الأمر الذي جعلها أيقونة للمقاومة، وبقعة استعصاء على الاحتلال، ومنطقة عصيَّة على أجهزة السلطة الأمنية.
وتشكّل جنين نقطة إشعاع لباقي مدن الضفة في الجرأة على التصدي للاحتلال، كما أنها تُذكي التنافس بين فصائل المقاومة في تعزيز دورها في المقاومة في كل المدن الفلسطينية، وتجاوز عقبة السلطة الأمنية التي بدأت التراجع بالفعل في شمال الضفة، وستستمر في التراجع بخاصة مع فشلها في تحقيق أي إنجاز سياسي خلال نحو 30 عاماً من المفاوضات.
المقاومة تتقدم
وتشكل الضفة والقدس محور الصراع الأهم مع الاحتلال، نظراً إلى أهميتهما الجيوسياسية التي تشكل التهديد الأكبر للاحتلال، فضلاً عن دور فلسطينيي الـ48 في ضرب المشروع الصهيوني من داخله.
ومن هذا المنطلق، فإن تقدم المقاومة هنا، والانجازات التي حققتها، والدافعية القوية التي باتت تمتلكها، والروح الجماعية في التصدي للاحتلال، تعزز استنتاج أن الشعب الفلسطيني عام 2022 تقدم خطوة جديدة في صراعه الطويل مع الاحتلال، وتقوّي فرص اندلاع انتفاضة ثالثة، خصوصاً مع الحماية التي تقدمها مقاومة غزة للفلسطينيين.
وقد أربكت المقاومة المتفجرة في الضفة والقدس حسابات الاحتلال، الذي كان يعتقد أنه قادر على ردع الشعب الفلسطيني والاستفراد به، وتنفيذ مخططاته التهويدية، مستعيناً بمناخ التطبيع الذي أشاعه بعد قمم شرم الشيخ والنقب.
كما أن فشل الاحتلال في تشكيل حكومات مستقرة وعجزه عن ضمان أمن مواطنيه، يتضاعف مع تضعضع رهان الاحتلال على دور السلطة الذي بدأ في التراجع تدريجياً، ما يشير إلى أن المرحلة القادمة هي مرحلة المقاومة.
ويعزز ذلك حاجة القوى الفلسطينية إلى استثمار هذه الفرصة التاريخية، والاتفاق على جبهة وطنية موحدة تُعلي قيمة المقاومة وتدعمها وتتمسك بالحقوق والثوابت الفلسطينية.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.