أسئلة كبيرة تصاحبنا وتؤرقنا على الدوام، وهي أسئلة حاول منتدى The Next، الذي نظمته شبكة TRT قبل يومين في إسطنبول، الإجابة عن بعضها وتسليط الضوء على بعضها الآخر. ويشكّل المنتدى في نسخته الحالية مساهمة في الجهود الدولية، مثل TDX، الساعية إلى إحداث حالة من الوعي حول الأخطار التي تحدق بالبشرية وتهدّد مستقبلها.
في أروقة المنتدى، وفي باحاته والممرات المؤدية إليه، كان الزائر والمشارك على حد سواء يلمح التفاعل الإنساني الدافئ الذي افتقدناه على مدار ما يقرب من سنتين، هما عمر جائحة كورونا، التي أدّت إلى إصابة الكوكب بنوع من الشلل المتكامل، وحشرت ما يقرب من سبعة مليارات إنسان في بيوتهم. فالأجواء المليئة بالابتسامات، والأحاديث الجانبية المتشابكة، والترحيبات التي يتقاذفها الحاضرون من هنا وهناك، والحرص على استثمار كل دقائقه بالأحاديث والثرثرة والتداولات، عكست قدرة الإنسان على إعادة التكيف السريع والنشط مع حياته الطبيعية التي افتقدها لفترة. قد يكون هذا التفاعل هو الرسالة المُبطَنة واللا واعية التي خرج بها كل من حضر المنتدى.
هذه الرسالة اللا واعية كانت من أبرز الأدبيات التي أجمع عليها الحضور، في حين كانت الاختلافات في وجهات النظر، والتقييمات المتضاربة حول مستقبل الإنسانية، حاضراً بقوة، وهو نوع من الاختلاف والتضارب لا غنى عنه، فالحلول الكبرى والإبداعية تنبثق من النقاش الحر والاختلاف البنَّاء والتداول السلمي للحوار. لقد ساد شعور من التفاؤل حول مستقبل البشرية، ولكن ذلك لم يمنع استشعار القلق. هذا فضلاً عن أن كثيرين أبدوا تفاؤلاً حذراً، مثل مها من تونس (ماجستير راديو وتليفزيون وسينما في جامعة مرمرة) التي قالت إن المشكلات المستقبلية وعلى رأسها العنصرية لا يمكن مواجهتها إلا بتعاضد الجميع وتوحُّدهم على هدف واحد هو إنهاء مظاهر العنصرية والكراهية للغير.
لقد عبّر الحضور عن جملة من المخاوف التي تنتظر الإنسانية في المستقبل، وهي مخاوف تجد أصداءها في عديد من المنابر العالمية في الآونة الأخيرة. فبالإضافة إلى أزمة تنامي العنصرية، عبّرَت ميشيل (ماجستير تجار في جامعة إسطنبول) عن تخوُّفها من قدرة الإنسان على التأقلم مع حياته في المستقبل في ظل التغيرات الجوهرية التي تجتاح المجتمعات الإنسانية، في حين رأت ماريا (ماجستير عمارة إسلامية في جامعة بهشه شهير) أن الهجرة الناجمة عن الحروب أو التغير المناخي سوف تكون من أكبر المشكلات الإنسانية مستقبَلاً نظراً إلى التهديدات التي سوف تمثلها هذه الهجرة على استقرار المجتمعات الإنسانية. من جانبها عبرت تسنيم (طالبة دكتوراه في الهندسة البيئية بجامعة يلدز) عن أن المناخ والعمارة سوف يكونان من المشكلات الأبرز.
يتماشى هذا مع عديد من الأطروحات التي ترى أن المدينة ستكون القنبلة الموقوتة التي ستنفجر في وجه الإنسانية يوماً ما، وذلك مع بلوغها حالة الإشباع. أما عبد الحميد (من الفلبين، يدرس الماجستير في جامعة صباح الدين زعيم) فقد رأى أن التقدم في تكنولوجيا المعلومات وما ينجم عنه من تشتُّت سيكون المشكلة التي يجب على الإنسانية التعامل معها بجدية سريعاً قبل أن تفلت الأمور من عقالها. وعندها لن يكون بمقدورها احتواؤها، فضلاً عن إيجاد حلول ناجعة لها.
برزت التكنولوجيا بوصفها العامل المحرّك لجميع المناقشات والمداولات في المنتدى بين المشاركين والحضور، الذين تنحدر الغالبية العظمى منهم من الشرائح الأكاديمية ورواد الأعمال وأصحاب مشاريع ومبادرات وناشطين ومؤثرين على السوشيال ميديا وتكنولوجيين. فعلى الرغم من التخوف الواضح والمباح حول تأثير التكنولوجيا في مستقبلنا، يوجد إجماع غير مصرَّح به بأن هذه التكنولوجيا ذاتها قد تكون الأمل الوحيد المتبقي أمام الإنسانية للتغلب على أزماتها المستقبلية من التغير المناخي إلى نقص الغذاء، ومن أزمة الأمن السايبراني إلى شحّ المياه.
من جانبه، عبّر Bora Erdamar وهو محاضر متخصص في تكنولوجيا الـ،Blockchain عن نظرته التفاؤلية في ما يخص التكنولوجيات اللا مركزية، وذلك في التغلب على "المعضلة الاجتماعية" ومن ثم التحول إلى مجتمعات أكثر قابلية ومرونة في التعاطي مع المشكلات المستقبلية. وهذه النظرة هي امتداد لتيار أخذ زخمه على مدار عقود سابقة تَمثَّل في تقوية وتعزيز ثقافة التشفير الأناركية Crypto-anarchy. دعت هذه الثقافة، التي يُعَدّ Timothy May من أبرز روادها، إلى تبني أدوات من قبيل العملات المشفرة Bitcoin، وتطبيقات الرسائل المشفرة، والمتصفح المتخفي مثل Tor. هدفت هذه الثقافة إلى تحدِّي السلطات المركزية والشركات والمؤسسات الرسمية. فقد كان رواد هذه الثقافة يبحثون عن جنة التخفِّي بحيث يُجرُون تعاملاتهم بعيداً عن أعين المراقبة والمحاسبة للحكومات أو للشركات الكبرى أملاً في العيش في ظلّ بحبوحة الخصوصية والحرية الطوباوية غير المقيدة.
هذه النظرة التبسيطية سرعان ما اخترقها كابوس التعاملات المشبوهة، إذ أصبحت هذه التكنولوجيا والمنصات والتطبيقات التي توفّرها مرتعاً للقراصنة ولأرباب الجريمة. فبين عامَي 2011 و2013 قُدّر حجم المداولات التي جرت على موقع Silk Road في الشبكة المظلمة Dark Net بما يقرب من 1.2 مليار دولار. وعلى الرغم من أن هذا الموقع أقفلته السلطات في ما بعد فإن عديداً من المواقع أمثاله ما زال نشطاً ويجري فيه بيع البيانات الشخصية، والمخدرات، وصور تعذيب الأطفال، وغيرها، بطريقة سهلة تشبه طريقة البيع على منصة أمازون على سبيل المثال.
في سياق متصل، كان الحديث عن ميتافيرس مثيراً للدهشة، فهناك عالم ثلاثي الأبعاد يتشكل سريعاً، وفي الوقت الذي مازلنا نحاول التكيف فيه مع النظام التكنولوجي الأول للإنسانية The First System of Technology for Humanity، إذا بنا ندلف سريعاً بلا مكابح إلى النظام التكنولوجي الثاني للإنسانية. وعندما نحن مجرد واجهات المستخدم على شاشة حواسيبنا وأجهزتنا المحمولة اليوم، فنحن نتقدم سريعاً نحو التحول إلى كيانات افتراضية Avater تحاكي تماماً كياناتنا الفيزيائية.
لقد كنا على مدار عقود نقف على أعتاب التكنولوجيا مع الجيل الثاني من الإنترنت، ولكن ها نحن أولاء ننزلق إلى أحشائها مع تكنولوجيا الميتافيرس. وهنا دعت سارة، صاحبة ومؤسِّسة Nodes Design، وهي منصة تعليمية متخصصة في ربط المصممين الحاسوبيين الرائدين حول العالم بطلاب الهندسة المعمارية في الشرق الأوسط، إلى ضرورة اللحاق بركب هذه التكنولوجيا، وضرورة الابتعاد عن التوقعات السلبية، فليس من الضروري الانتظار حتى تتحول التكنولوجيا إلى Trend حتى يبدأ الأفراد والحكومات الاستعداد لها، بل يجب اتخاذ موقف أكثر عقلانية والتعاطي مع التكنولوجيات المستقبلية على قاعدة معرفية واعية وصلبة.
في حين دعت Begum Aydinoglu، وهي مصممة حاسوب لامعة، إلى ضرورة العمل على ردم الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة والدول المتأخرة تكنولوجياً واعتبرت أن حقّ الوصول إلى الإنترنت يجب أن يكون مكفولاً للجميع مع تأكيدها أن تكنولوجيا الميتافيرس لن تساهم في جعل الفجوة الرقمية أكثر سوءاً مما هي عليه الآن.
النظرة التفاؤلية حول تكنولوجيا ميتافيرس وجدت أصداءها في حديث فيصل يو-كا، الباحث في الهندسة المعمارية والفلسفة والتكنولوجيا ومدير الأبحاث في شركة ILLUSORR، إذ أكد أن ميتافيرس سوف تعزّز قدرة البشر على التواصل، لقد استطاعت منصات التواصل الاجتماعي تقريب الناس بعضها من بعض عبر المحادثات وإرسال الصور والمقاطع الصوتية، وسوف نرى هذا التوجه يتعزّز أكثر هذه المرة، وذلك من خلال التواصل عبر الطبيعة الافتراضية Avatar التي تعكس وتماثل الطبيعية الفيزيائية للمستخدم. وأضاف أن "الطبيعة الافتراضية لتكنولوجيا الميتافيرس سوف تكون أكثر تفاعلية وتسمح بانخراط أكبر للمستخدمين سواء معاً أو مع محيطهم البعيد والقريب على حد سواء. لا شك بأن بين الإنترنت والتفاعل الفيزيائي فجوة، والميتافيرس، على حد قوله، سوف تردم هذه الفجوة وتجعل من الإنترنت بيئة أكثر انغماسية بحيث تذوب الفوارق بين العالَمَين الفيزيائي والافتراضي.
هذه النظرة التفاؤلية لم تكُن محلّ إجماع، فعند سؤال Glen Gilmore، وهو متخصص في المستقبليات ومؤثّر على السوشيال ميديا، حول ما إذا كانت تكنولوجيا الميتافيرس سوف تحدّ من ظاهرة التضليل الإعلامي والتلاعب والأخبار الكاذبة التي أضرّت كثيراً بالديمقراطية الليبرالية في الغرب، أجاب بالنفي القاطع، وقال: "على العكس، فقد تشهد هذه الظاهرة طوراً متقدماً كلما اكتسبت تكنولوجيا ميتافيرس حضوراً أكبر في واقعنا".
لم يمنع هذا التشاؤم النسبي، أو هذا التخوف إذا صحّ التعبير، البعض من التقدم خطوة نحو الواقعية التكنولوجية، وأقصد بها استخدام التكنولوجيا في حل مشكلاتنا الآنية أو مواجهة التحديات الراهنة. واحدة من أبرز الحضور كانت سارة وحيدي، الكندية من أصول أفغانية التي استطاعت أن تتحدى الواقع الأمني الصعب في أفغانستان وتطلق منصَّتها Ehtesab لحماية أرواح الأفغانيين عبر إرسال رسائل تحذيرية حول الأماكن التي تقع فيها أعمال عدائية أو قتالية. وعلى الرغم من أن نسبة الأفغان الذين يمتلكون أجهزة ذكية لا تتعدى خمسة بالمئة من عدد السكان، وأن نسبة الوصول إلى الإنترنت في البلاد لا يتعدى عشرين بالمئة، استطاع تطبيق Ehtesab تحقيق حضور قوي في الشارع الأفغاني، يظهر ذلك من خلال الأرقام التي تشير إلى أن الغالبية العظمى من سكان العاصمة الأفغانية كابول أصبح لديهم القدرة على الوصول إلى التطبيق والتعامل معه.
وعلى الرغم من أن العمل في بيئة تسيطر فيها حركة طالبان على الحكم جعل مهمتها هي وفريقها أصعب، تُصِرّ سارة على المضيّ قدماً في تعزيز الوصول إلى عدد أكبر من الأفغان وتغطية مساحات أوسع من أفغانستان، وذلك من خلال عملية ربط تطبيق Ehtesab بتكنولوجيا الرسائل القصيرة SMS. وتُعَدّ سارة من المتفائلين التكنولوجيين Techno-optimists، لذلك فهي تدعو ليس إلى تعزيز خاصية الوصول إلى التكنولوجيا وحسب، بل وزيادة معدلات الانخراط بها. فعبر الوصول والانخراط مع التكنولوجيا يمكن التغلب على عديد من العقبات التي تواجه البشرية في طريقها نحو التقدم والازدهار.
غادر الحضور وعند عديد منهم رغبة لو سنح للمنتدى أن يمتدّ على مدار أكثر من يوم واحد كما عبَّرَت الطالبة سو آي من الجامعة التركية الألمانية. وعلى الرغم من أن المنتدى قدّم إجابات عن عديد من التساؤلات، فإنه أثار تساؤلات أكثر تحتاج إلى منتديات عديدة لتناولها وتقديم الإجابات الشافية لها.