أقال مجلس النوّاب الأمريكيّ الزعيم الجمهوري النائب كيفين مكارثي من منصبه كرئيس للمجلس، في تصويتٍ غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، يوم الثلاثاء 3 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، حيث انضمّ ثمانية أعضاءٍ جمهوريين لكتلة الأقليّة الديمقراطية مرجّحين بذلك كفّة حجب الثّقة عن مكارثي بنحو 216 صوتاً مقابل 210 أصوات معارضة لقرار حجب الثّقة.
لقد تولّى كيفين مكارثي رئاسة المجلس بعد سيطرة حزبه الجمهوري على مجلس النوّاب الأمريكي، إثر حصوله على الأغلبية البسيطة في الانتخابات الأمريكية النصفية لعام 2022.
كان باستطاعة الحزب الجمهوري الفوز الساحق في هذه الانتخابات، لولا فشله في تحويل الانتخابات إلى استفتاء حول أداء الرئيس الأمريكي بايدن، وكذلك في استغلال الظروف الاقتصادية وارتفاع أسعار السلع والخدمات لحشد الناخبين الأمريكيين لصالحهم، لا سيّما المستقلّين منهم.
كما فشل الحزب الجمهوري في إقناع الناخبين الأمريكيين ببرنامجهم لمعالجة الكثير من القضايا الاجتماعية المُلحّة في البلاد مثل زيادة معدلات الجريمة والهجرة غير الشرعية.
ونتيجةً لهذه الأغلبية البسيطة، كانت عملية انتخاب كيفين مكارثي لرئاسة المجلس أمراً مؤلماً ومخاضاً عسيراً في مسيرته السياسية، حيث خاض نحو 15 جولة للتصويت قبل تحقيق الفوز برئاسة المجلس، وبعد تقديم تنازلاتٍ مهمةٍ للتيار اليميني المُتطرّف داخل الحزب الجمهوري، يسمح فيها بإجراء حجب الثقة عنه من خلال دعوة عضو واحدٍ فقط في كُتلتِه البرلمانية، الأمر الذي كان سبباً مباشراً في سقوطه السياسي.
لماذا لم يُنقِذ الديمقراطيون مكارثي؟
أثار مكارثي حفيظة التيار اليميني المُتطرِّف داخل الحزب الجمهوري بعد قيامه بتمرير مشروع رفع سقف الدين الأمريكي لمدة 45 يوماً بالتعاون مع الحزب الديمقراطي الأمريكي، ما عدّه التيار اليميني خيانةً للتوجه العام للحزب ومناصرةً غير محكمةٍ وغير مقبولةٍ للرئيس الأمريكي جو بايدن وحزبه الديمقراطي.
ولم يهرع الديمقراطيون لإنقاذ مكارثي من مقصلة حجب الثّقة؛ لعدم ثقتهم به ولدوره "السلبي" في تحقيقات مجلس النواب حول دور الرئيس الأمريكي السابق ترمب وأنصاره في معركتهم لإفشال مراسم اعتماد نتيجة الانتخابات الأمريكية الرئاسية لسنة 2020، وسعيهم للسيطرة على مبنى الكونغرس الأمريكي خلال الهجوم المشؤوم عليه في 6 يناير/كانون الثاني 2021، الذي ما زال يشكل جرحاً نازفاً في الديمقراطية الأمريكية لم تتعافَ من آثاره بعد.
وفي المقابل، لم يُقدِّم مكارثي أيّ تنازلاتٍ سياسيةٍ للديمقراطيين في المجلس تُحفِّزهم على دعمه ضدّ التيار اليميني المُتطرِّف داخل الحزب الجمهوري. لقد ظهر الحزب الديمقراطي الأمريكي أكثر تماسكاً وتجانساً وتنظيماً من الحزب الجمهوري في إجراء عملية انتقال قيادة الحزب داخل مجلس النواب الأمريكي بعد الانتخابات النصفية لعام 2022.
ساعدت رئيسة المجلس السابقة ذات الشخصية القوية نانسي بيلوسي، في بناء جبهة داخلية متماسكة للحزب الديمقراطي، رغم تعدُّد التيارات السياسية وتباين التوجهات الفكرية فيه، وكانت بيلوسي أول امرأةٍ أمريكيةٍ تصبح رئيساً لمجلس النواب معاصرةً لأربعة رؤساء أمريكيين، ولقد مهّدت استقالتها المجال لقيادات شابة تُمثّل جيلاً جديداً، حيث فاز عضو مجلس النواب الديمقراطي حكيم جيفري بزعامة الكتلة الديمقراطية، ليصبح بذلك أول زعيمٍ أسود لكتلة حزبية نيابية في تاريخ الكونغرس الأمريكي.
وبينما استطاع الحزب الديمقراطي تقديم قيادة متنوعة تُمثّل الأقليات في البلاد، نجد أنّ الحزب الجمهوري ما زال يُسيطر عليه الرجلُ الأمريكي الأبيض سيطرةً تامةً لا تعكس التطورات الديموغرافية في الولايات المتحدة.
دلالات كثيرة
من دلالات حجب الثّقة عن مكارثي، تقوية نفوذ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب داخل الحزب الجمهوري الأمريكي والتحكُّم في توجهاته السياسية العامة، إذ لا يزال الرئيس الأمريكي السابق الأكثر تقدماً في استطلاعات الرأي العام الأمريكي للفوز بانتخابات الحزب الجمهوري التمهيدية السابقة للانتخابات الأمريكية العامة التي سوف تقام في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لكن سينعكس هذا الأمر سلباً على تماسك الجبهة الداخلية للحزب الجمهوري وحظوظه السياسية في هذه الانتخابات القادمة.
نادى كثيرٌ من النوّاب الجمهوريين المعتدلين بضرورة إلغاء لائحة الحق في إجراء تصويت حجب الثقة عن رئيس مجلس النواب من خلال صوتٍ واحدٍ فقط، وذلك من أجل الحفاظ على وحدة الحزب وعدم تكرار تجربة حجب الثقة مرة أخرى عن الرئيس القادم لمجلس النواب.
وربما يقبل أعضاء الحزب الجمهوري اليمينيين بتعديل لائحة حجب الثقة كنوع من التوافق السياسي دون إلغائها كليّةً، لما في ذلك من إضعافٍ لنفوذهم المتنامي في السياسة الأمريكية تحت زعامة الرئيس السابق دونالد ترمب.
لكن بلا شك، سوف تحدُّ سيطرة اليمين المُتطرِّف المحتملة داخل الحزب الجمهوري على مجلس النواب من قدرة إدارة الرئيس الأمريكي بايدن في تحقيق كثيرٍ من السياسات العامة المتبقية لدورته الرئاسية الحالية، إلّا إذا نجحت إدارتُه في الوصول إلى توافُق مع قيادة الجمهوريين القادمة في المجلس وأعضاء الحزب المعتدلين حول كثير من القضايا الاقتصادية والسياسية الطارئة في الولايات المتحدة، لا سيّما قضية رفع سقف الدَين الأمريكي، وتجنُّب تعطيل وإغلاق الحكومة الأمريكية في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
ستكون لقضية رفع سقف الدَين الأمريكي آثار كارثية على الاقتصاد الأمريكي وربما العالمي إذا لم ينجح رئيس مجلس النواب الأمريكي القادم في تجنبها، كما سيكون لمواصلة الحزب الجمهوري إقامة تحقيقات علنية حول ابن الرئيس وحوله شخصياً من مجلس النواب الأمريكي، وقع سيئ على الرئيس بايدن وحظوظ ترشُّحِه لدورة رئاسية أخرى، في ظل دعوات متنامية تطلب منه ألّا يترشح للانتخابات الرئاسية القادمة نظراً لبلوغه ثمانين عاماً.
ومن الدلالات المباشرة المهمة كذلك لحجب الثّقة عن مكارثي، قضية استمرار دعم الولايات المتحدة الأمريكية الاستراتيجي لدولة أوكرانيا في حربها الشرسة ضدّ روسيا بزعامة الرئيس بوتين.
وقد استطاع الرئيس السابق دونالد ترمب تغيير النظرة السياسية الكُليّة للحزب الجمهوري نحو روسيا، ونحو قيادة الولايات المتحدة للنظام العالمي منذ انهيار منظومة دول الاتحاد السوفييتي السابق مطلع تسعينيات القرن الماضي، لم يعدّ الحزب الجمهوري هو الحزب المناهض للتمدُّد الروسي في العالم كما كان العهدُ به طيلة فترة الحرب العالمية الباردة.
مثّل السقوط التاريخي للنائب كيفين مكارثي من رئاسة مجلس النواب الأمريكي فصلاً هزيلاً جديداً من فصول إشاعة الفوضى السياسية في مؤسسات الحكم الأمريكية والتقاليد السياسية العريقة.
وأبطالُ هذا الفصل هم أعضاء اليمين المُتطرِّف في الحزب الجمهوري تحت زعامة الرئيس السابق دونالد ترمب، المرشح الجمهوري الحالي الأوفر حظاً في انتخابات الحزب التمهيدية، الذي يواجه أكثر من 90 اتهاماً قضائياً وقضايا مصيريّة أخرى تتعلّق بإمبراطوريته المالية، التي تسعى المُدّعية العامة الأمريكية في مدينة نيويورك إلى إيقاف نشاطها في الولاية بتهمة ممارساتٍ تجاريةٍ غير قانونية.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.