فتوجد اللقاءات السرية التي جمعت بين إيران والسعودية في العاصمة العراقية بغداد التي تهدف إلى محاولة إيجاد موطئ قدم للدبلوماسية، للحد من الحرب الدائرة بينهما بالوكالة على طول المنطقة وعرضها من اليمن مروراً بسوريا والعراق وصولاً إلى لبنان.
كما تأتي في هذا السياق التقارير الإخبارية التي تحدثت عن زيارة سرية لرئيس الاستخبارات السعودية للعاصمة السورية دمشق ولقائه قيادات أمنية للنظام السوري. مع العلم أن العلاقات الرسمية بين السعودية وسوريا مقطوعة من الناحية الرسمية منذ طرد سوريا من جامعة الدول العربية على خلفية المجازر التي ارتكبتها قوات النظام وحلفاؤها في حق المدنيين من الشعب السوري.
بطبيعة الحال علينا أن لا نهمل في هذا المسار الوفد السعودي والوفد الإيراني اللذين زارا العاصمة العمانية مسقط مع وفد ممثل للأمم المتحدة وآخر للولايات المتحدة للتباحث في حلول دبلوماسية للأزمة اليمنية ووضع حد للحرب الدائرة هناك منذ ما يقرب من ست سنوات راح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى والجرحى ووضعت اليمن برمته على شفير المجاعة.
على صعيد متصل تبرز الزيارة التركية على رأس وفد رفيع المستوى إلى القاهرة ولقاء نظرائهم المصريين بعد قطيعة تقارب ثماني سنوات، واحدةً من أهم الأمثلة على الروح الجديدة التي بدأت تسري في المنطقة.
فبعد القطيعة الدبلوماسية بين البلدين منذ 2013 تحاول تركيا ومصر إيجاد طريقة سياسية لتجاوز خلافاتهم والبحث عن قواسم مشتركة لمصالحهم. وقد تبدَّى ذلك في الملف الليبي على وجه الخصوص، إذ أخذت مصر تتعاطى بصورة أكثر انفتاحاً مع الحل السياسي هناك من خلال فتح قنوات تواصل مباشرة مع الحكومة في طرابلس وتحييد الحل العسكري والدعم المباشر الذي كان يحظى به من قبلها خليفة حفتر.
وتأتي الزيارة أيضاً تتويجاً لخطوات سابقة اتُّخذت على صعيد تخفيض الهجوم الإعلامي بين البلدين وتسكين حدة خطاب المعارضة المصرية المقيمة على الأراضي التركية واقتراب الموقف المصري من الموقف التركي فيما يخص الحدود البحرية في شرق المتوسط، إذ ابتعدت الرؤية المصرية عن نظيرتها اليونانية وهو ما مثَّل انفراجه ولو بسيطة لأنقرة التي ترى أن جبهة صلبة تتكون ضدها في شرق المتوسط تتربع على عرشها اليونان ومدعومة من دول أوروبية كفرنسا فضلاً عن إسرائيل ودول أخرى كالإمارات.
تزامناً مع زيارة الوفد التركي إلى القاهرة كان يوجد حدث لا يقل عنه أهمية هو الاتصال الهاتفي بين الرئيس التركي أردوغان والعاهل السعودي الملك سلمان. وهو مؤشر مهم على حرص البلدين على تعزيز علاقتهما إثر الأضرار التي شابتها بُعيد اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي بقنصلية بلاده بإسطنبول.
وفي الوقت الذي لم تنقطع فيه العلاقات الثنائية بين الجارين الإقليميتين تركيا وإيران واشتراكهما بالعديد من المبادرات السياسية خصوصاً فيما يتعلق بالأزمة السورية، فإن المتغير الواضح هو المكون العربي الإقليمي بثقله المتمثل بكل من السعودية ومصر.
فالتحركات الدبلوماسية اليوم التي تجري على مسارات متعددة تتجاوز التحفظات السابقة تؤشر على أن المكون العربي أصبح مستعداً أكثر من قبل للخروج من عزلته والبحث عن مسارات جديدة بتطبيع علاقاته مع دول الجوار العربي ذات الثقل الكبير كتركيا وإيران، وهي قناعة تشاركهم بها أيضاً طهران وأنقرة اللتين تريان أن الدبلوماسية هي الخيار الأسلم نحو تطبيع العلاقات الإقليمية بما يخدم المصالح المشتركة.
وتأتي هذه التحركات ترجمة عملية للتطورات التي طرأت مؤخراً على مسرح السياسة الدولية، وللقناعة الداخلية التي باتت تترسخ عند هذه القوى الإقليمية. وأبرز هذه التطورات الإقليمية هو مجيء الرئيس الأمريكي الديمقراطي جو بايدن الذي أكد منذ بداية تسلُّمه لمهامه الدستورية أنه سوف يتعامل مع المنطقة بطريقة مغايرة عن الطريقة الانتهازية التي كانت تتبعها إدارة سلفه الرئيس ترمب.
فمن ناحية أدار الرئيس ظهره للسعودية في حين استفز أنقرة باعترافه بـ"الإبادة الأرمنية" في الوقت الذي يبدي فيه بروداً تجاه مصر، أما إيران وعلى الرغم من عودة المحادثات المباشرة حول برنامجها النووي فإن الشروط الأمريكية المسبقة تعرقل تقدُّمها، وهو الأمر الذي يزيد من إحباط الإيرانيين.
تعزز هذه السياسات من التوجُّه العام للإدارة الأمريكية نحو استمرار انسحابها من المنطقة (أفغانستان نموذجاً)، وتوجهها إلى التركيز على مناطق أكثر حيوية لمصالحها العالمية كأوروبا وجنوب شرق أسيا.
هذا، وتأخذ المنافسة بين الدول الكبرى تصاعداً لافتاً سواء بين الولايات المتحدة والصين من جانب، أو بين الولايات المتحدة وروسيا من جانب آخر، وما تحركات روسيا العسكرية على حدود أوكرانيا الشرقية إلا مثلاً لذلك، فهذه التحركات تأتي بسياق ما تعتبره موسكو تجاوزاً للغرب لخطوطها الحمراء بسعيها لضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي ونصب مزيد من الصواريخ الدفاعية طويلة المدى بالقرب من حدودها.
في ظل هذه التطورات وجدت الدول الإقليمية الكبرى (تركيا والسعودية ومصر وإيران) نفسها بوضع يحتم عليها البحث عن سبل أخرى لتعزيز علاقاتها الثنائية من أجل الحفاظ على مناعة أقوى في ظل تقلُّب السياسة العالمية واشتداد المنافسة بين الكبار.
مع هذه التطورات السياسية كانت قناعة تتعزز يوماً بعد يوم بأن الاحتراب الثنائي بين القوى الإقليمية على مدار سنوات لم يأتِ بنتيجة تذكر لصالح القوى المتصارعة، بل على العكس أضعفها هذا الصراع ووضعها في أزمة تشارك فيها الجميع، الأمر الذي دفع هذه القوى للبحث عن بدائل أخرى لتحقيق مصالحها والحفاظ على أمنها بعيداً عن الصراع والتنافس الخشن وحروب الوكالة.
من السابق لأوانه الحكم على نجاعة هذه المساعي الإقليمية بين دول المنطقة، ولكن من الأهمية بمكان وضعها ضمن سياقها السياسي والتاريخي، وهو السياق الذي يحتم علينا الخروج بنتيجة مؤداها أن المنطقة اليوم تدخل مرحلة جديدة من تاريخها ربما تكون مغايرة للفترة الماضية.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.