شهدت قيمة الليرة التركية طفرة هائلة على نحو فوري في أعقاب تصريحات أدلى بها الرئيس أردوغان عن خطة اقتصادية وسياسة مالية جديدة (Reuters)
تابعنا

ففي الوقت الذي كانت فيه بيانات نمو الناتج المحلي الإجمالي لتركيا، عند 7.4% في الربع الثالث من عام 2021، كانت هناك حالة من القلق لدى المستثمرين والمدّخرين والمستهلكين، بسبب تدهور سعر صرف الليرة، وكذلك ارتفاع معدلات التضخم، مما أدى لاتخاذ الحكومة مجموعة من الإجراءات لمواجهة الأزمة.

فأتى قرار حماية المدّخرات مِن مخاطر تقلّبات سعر الصرف، لتبدأ مرحلة جديدة من التهدئة لسوق الصرف، وبالتالي لباقي مكونات النشاط الاقتصادي، على أمل أن يعود الاستقرار الاقتصادي ليشمل كافة المؤشرات الاقتصادية الكلية، وليتخفف المواطن من الأعباء التي أُلقيت على عاتقه إبان تصاعد الأزمة.

وصاحَب إجراء قرار حماية المدّخرات، قرارات أخرى للحكومة تتعلق بالحماية الاجتماعية، على رأسها زيادة الحدّ الأدنى للأجور بنسبة 50%، ليصل إلى 4250 ليرة، ومراعاة بعض المهن بزيادات أكبر، كما حدث مع الأطباء، الذين تعهّدت الحكومة بزيادة الإخصّائيين منهم بنحو 5 آلاف ليرة لرواتبهم الشهرية، ومَن هم أقلّ مِن درجة إخصائي تُرفع رواتبهم بنحو 2500 ليرة.

قرار التثبيت المفاجئ

على مدار الفترة من مساء 20 ديسمبر/كانون الأول 2021، وحتى كتابة هذه السطور، هناك حالة من الهدوء النسبي الكبير في سوق سعر الصرف، وبالتالي يمكن القول إن الآلية الجديدة التي تبنتها الحكومة بحماية مدّخرات المواطنين مِن تقلّبات سعر الصرف، قد حققت الهدف منها، خلال هذه الفترة، ولكن الجميع كان يترقب قرار لجنة السياسات النقدية بالبنك المركزي، بشأن سعر الفائدة.

إلا أن قرار البنك المركزي التركي في 20 يناير/كانون الثاني 2022، بتثبيت سعر الفائدة، هدم سيناريوهات المضاربين، التي كانوا يتوقعونها حول أمرين، الأول عودة ممارسة نشاطهم وتحقيق أرباح كبيرة، ومن جهة ثانية اختبار آلية حماية مدخرات الأفراد، في ظلّ تخفيض سعر الفائدة.

ويُعتقد أن قرار التثبيت أتى لعدّة أمور، منها ما يتعلق بالسوق الداخلية، وأخرى تتعلق بالأوضاع الاقتصادية العالمية. أما على مستوى السوق الداخلية، فقد استفاد المستثمرون والمستهلكون، الذين يعتمدون على الاقتراض من الجهاز المصرفي، من قرارات البنك المركزي بتخفيض سعر الفائدة بنحو 5 نقاط، فبعد أن كان سعر الفائدة في مارس/آذار 2021 عند 19%، أصبح منذ ديسمبر/كانون الأول 2021، وفي يناير/كانون الثاني 2022، عند 14% فقط.

وهو معدّل مقبول وجيّد، ويعطي فرصة لصانع السياسة الاقتصادية، أن يُحدِث مواءمات بين مصالح كافة الفاعلين في النشاط الاقتصادي، من مستهلكين ومدّخرين ومستثمرين وعمال، وكذلك يحقق مصالح الحكومة في كونها تعتمد على الاقتراض لتمويل الموازنة العامة، وكذلك المشروعات العامة التي تتبناها الدولة.

ولكن لا يزال معدل التضخم، حسب بيانات ديسمبر/كانون الأول 2021، مرتفعاً عند 36%، ووفق بيانات البنك المركزي التركي حول تثبيت سعر الفائدة، ذكر أنه يستهدف الوصول بالتضخم إلى 5% على المدى المتوسط، وستكون بيانات يناير/كانون الثاني 2022 عن التضخم كاشفة مدى استقرار مؤشرات السياسة النقدية، فإن لم يتراجع معدل التضخم عما كان عليه في ديسمبر/كانون الأول 2021، فعلى الأقل لا يزيد.

ومقارنة التضخم في يناير/كانون الثاني 2022، بما كان عليه في يناير/كانون الثاني 2021 عند معدل 14.9%، لن تُظهر تحسّناً ملموساً، بسبب الفارق الكبير بينهما.

أما إذا كانت المقارنة بين يناير/كانون الثاني 2022، وديسمبر/كانون الأول 2021، فبلا شك، ستكون النتيجة إيجابية ولو بمعدل بسيط، وتحقيق ذلك سوف يزيد من حالة التفاؤل مستقبلاً، بشأن الأداء الخاص بالسياسة الاقتصادية بشكل عام، وبالسياسة النقدية بشكل خاص.

ضغوط الخارج

جاءت الأسباب المتعلقة بالاقتصاد العالمي، التي تناولها بيان المركزي التركي، حول تثبيت سعر الفائدة، متوافقة مع الواقع، حيث يمرّ الاقتصاد العالمي بموجة تضخّمية، لم تكن متوقعة، وحتى التوقعات بشأنها تغيّرت.

فبعد أن كان كثير من الخبراء يرون أنها ستكون مرتبطة بفصل الشتاء، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، أصبح التوجه الآن، توقّع أن تستمر هذه الموجة، بسبب استمرار ارتفاع أسعار الطاقة، التي وصلت إلى قرابة 90 دولار للبرميل خلال فترة ما بعد 15 يناير/كانون الثاني 2022، إلا أنها تراجعت بمعدلات طفيفة لتكون عند 86 دولار للبرميل، ويصاحب هذا استمرار ارتفاع أسعار الغذاء في السوق الدولية، وكذلك استمر ارتفاع تكلفة الشحن، منذ حلول أزمة جائحة كورونا.

وبحكم أن تركيا تعتمد بشكل كبير على استيراد الطاقة (الغاز الطبيعي والنفط) من الخارج، بنسبة تصل إلى 90% من احتياجاتها، فمن الطبيعي أنها سوف تعاني من ظاهرة التضخم المستورد، أي الذي تعود أسبابه للخارج، ومن غير المقبول أن تكون هناك ضغوط خارجية لرفع معدلات التضخم، وتتجه السياسة النقدية لخفض سعر الفائدة، فالتثبيت في هذه الحالة حول القرار، الذي يسمح بمساحة للمناورة لصانع السياسة النقدية، ليواكب بين المتغيّرات الاقتصادية المختلفة ليصل إلى حالة توازن.

ولم تكن الموجة التضخمية في الاقتصاد العالمي العامل الوحيد الضاغط على البنك المركزي، لعدم تراجع سعر الفائدة، ولكن ما ينتظره العالم أجمع، بشأن القرار المنتظر للمجلس الفيدرالي الأمريكي، بشأن رفع سعر الفائدة، جعل الجميع يترقّب ماذا سيحدث، وبخاصة تلك الدول التي ترتبط اقتصادياتها بالدولار، ولديها أموال ساخنة، وتركيا من بين هذه الدول.

فمحاولة خفض سعر الفائدة في ظلّ مثل هذه الظروف، ستكون نتيجتها الطبيعية خروج أكبر قدْر من الأموال الساخنة، وبما يشكّل ضغوطاً جديدة على سعر الصرف مرة أخرى في تركيا، وهو أمر غير محمود لأنه يأتي في ظروف غير طبيعية، بسبب التداعيات السياسية التي تعيشها البلاد تجهيزاً لانتخابات عام 2023، على صعيد الرئاسة والبرلمان.

آفاق المستقبل

لن تكون تركيا استثناءً عن باقي الدول، وبخاصة أن درجة إدماج الاقتصاد التركي في الاقتصاد العالمي، عالية، لذلك ستكون الاعتبارات الدولية مؤثرة بشكل كبير، فإذا استمرّت الموجة التضخمية على الصعيد الدولي، واتخذ المجلس الفيدرالي الأمريكي قراراً برفع سعر الفائدة، فستكون تركيا أمام تحدٍ بشأن رفع سعر الفائدة، وإلا ستجد نفسها أمام خروج كبير للأموال الساخنة، وضغوط جديدة على سعر صرف الليرة.

أما إذا قصرت فترة الضغوط التضخمية، وكان قرار سعر الفائدة بأمريكا غير موجود، أو موجود بمعدلات طفيفة، وغير مؤثرة في اتجاه السياسة النقدية لتركيا، فعندئذ، يمكن لتركيا أن تحافظ على سعر الفائدة دون رفع أو خفض، وذلك لأن الصدمة التي أحدثتها تداعيات تراجع الليرة في النصف الثاني من 2021، كبيرة، ومؤثرة على مقدّرات الحياة للمواطنين، فعلى سبيل المثال، بلغت نسبة الزيادة في الإيجارات السنوية للمساكن بحدود 20% تقريباً، فضلاً عن ارتفاع أسعار الغذاء، والعديد من الخدمات الضرورية الأخرى، من مياه، وانتقالات وكهرباء.

وقد يساعد تركيا في تحقيق السيناريو الثاني، للتثبيت وعدم زيادة سعر الفائدة، التحسّن المرتقب، لأداء الاقتصاد التركي بتحقيق فائض في الميزان الجاري، وتدفّق المزيد من الموارد الدولارية، التي تُهدّئ من أداء سوق سعر الصرف، بسبب زيادة المعروض عن الطلب.

ختاماً، ستكون حالة النجاح للسياسة الاقتصادية التركية، هي استعادة المزيد من الثقة في الاقتصاد، وتحقيق حالة توازن بين مكونات السياسة الاقتصادية، لتتواكب مع ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي والصادرات.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً