تعدّ الأزمة بين صربيا وكوسوفو من أكثر الأزمات الدولية تعقيداً، حيث لا تزال عصيّة على الحل اليوم بعد عقود ممتدة من الحروب العالمية والإقليمية والوساطات والمناوشات.
وتنبع تعقيدات الأزمة من كونها متعددة الطبقات الإثنية والدينية وذات أبعاد ثقافية وحضارية، كما أنّها تقع في منتصف التنافس الدولي في أوروبا بين كل من روسيا والغرب، كما أنّ انتماءها لمنطقة البلقان يجعل لها إرثاً تاريخياً مشتركاً وتقاطعاً مهماً في مرحلة الصراع بين أوروبا والدولة العثمانية.
فقد كانت منطقة البلقان مسرح الشرارة التي أدّت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، بعد اغتيال ولي عهد النمسا على يد طالب صربي في سراييفو، كما أنّ كوسوفو تقع في قلب خطوط التقسيم العرقية والدينية في منطقة البلقان، التي يتقاطع فيها الإسلام مع الأرثوذكسية والكاثوليكية المسيحية، كما تقع في قلب تقاطعات الأعراق الألبانية والصربية والكرواتية.
وقد استقلت كوسوفو عن صربيا عام 2008، استقلالاً اعترفت به 97 دولة عضواً بالأمم المتحدة، بينها 22 دولة من الاتحاد الأوروبي، في حين لا تزال صربيا ترفض الاعتراف باستقلال كوسوفو حتى اليوم، فبين عامَي 1997 و1999 شنّ الألبان تمرداً مسلحاً أجبر الناتو على شن هجوم على صربيا والجبل الأسود في حرب استمرت 78 يوماً لوقف الحرب،. ومنذ ذلك الحين، وبعد استقلال كوسوفو عام 2008، يعقد الاتحاد الأوروبي وساطات مستمرة من أجل تطبيع العلاقات بين الجانبين.
ولكن ورغم أنّ كلا البلدين، كوسوفو وصربيا، يطمح إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، فإنّ الاجتماعات الأخيرة فشلت في تقريب وجهات النظر، لا سيما ذلك الذي عُقد بين ممثلي الأطراف الثلاثة في بروكسل في 14 سبتمبر/أيلول الماضي، عقب الاشتباكات الدامية شمالي كوسوفو بين الشرطة ومسلحين صرب يقطنون شمال البلاد.
وتنبع الأزمة الحالية من وجود ما يقرب 120 ألف صربي شمالي كوسوفو، وسط 1.7 مليون مواطن من أصول ألبانية، رغم توصل المجموعتين العرقيتين داخل كوسوفو إلى اتفاق عام 2013 ينصّ على إنشاء اتحاد من 10 بلديات داخل البلاد من ضمنها البلديات الأربع التي تقيم فيها الأقلية الصربية، وشهدت مناوشات دامية بينهم وبين قوات الشرطة وقوة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوروبي.
وقالت الأقلية الصربية إنّ الاتحاد سيعمل على رعاية المجالات التعليمية والصحية وتخطيط الأراضي والتنمية الاقتصادية، لكنّ ألبان كوسوفو يخشون أن يؤدي ذلك إلى تشكيل دويلة مستقلة وجيب عرقيّ موالٍ للصرب.
وعلى صعيد السياسات الداخلية يعمد بعض الساسة الصرب، مثل النائب عن حزب "دورز" إيفان كوستيك، إلى إشعال الأوضاع من أجل استعادة كوسوفو وعدم استبعاد اللجوء إلى روسيا، طلباً للمساعدة؛ فالكثير من صقور الساسة الصرب ينظرون إلى كوسوفو على أنّها "مهدهم القومي والديني"، كما عكس تصريح لاعب التنس الصربي نوفاك ديوكوفيتش جزءاً من تلك الرؤية؛ حيث صرح للتلفزيون الفرنسي بأنّ "كوسوفو هي قلب صربيا".
كما أنّ الصرب ينظرون إلى كوسوفو كمنطقة بها الكثير من الأديرة المسيحية الأرثوذكسية الصربية التي بُنيت في حقبة ما بعد معركة 1389 ضدّ الدولة العثمانية، ويعدّونها جزءاً من "نضالهم الوطني".
وإلى جانب البعد الديني والعِرقيّ، فإنّ هناك بعداً خارجياً يعدّ حاسماً كالحال في أزمة أوكرانيا الحالية والتدخل الروسي واحتلال المقاطعات التي بها سكان ناطقون بالروسية، حيث تحدث بوتين عن غزو الناتو لصربيا عام 1999 وعدّه سبباً رئيسياً لعدم استقرار البلقان، ومن ثم اتخاذه مبرراً لتدخله الأخير واحتلاله أجزاء من أوكرانيا.
وقد صرح السفير الأمريكي السابق لدى حلف الناتو كيرت فولكر، بأنّ روسيا تدفع الصرب نحو التصعيد في كوسوفو، كما حذّر من تداعيات الصراع إذا ما تحوّل إلى العسكرة وقال إنّ "الصرب يتحركون منذ فترة طويلة نحو تعزيز المشاعر القومية في البوسنة ومونتنيغرو ومقدونيا وكوسوفو".
كما كان الدور الأمريكي حاسماً في استقلال كوسوفو عن يوغوسلافيا السابقة ثم صربيا بعد ذلك، بعد أن تدخلت عسكرياً ومنعت الصرب من ارتكاب مذابح ضد المسلمين كما جرى في البوسنة والهرسك، كما لا يزال الدور الأمريكي فاعلاً في الصراع حتى اليوم.
ويستند صرب كوسوفو إلى الدعم المادي والمعنوي الذي يتلقونه من صربيا التي يعدّونها وطنهم الأم، ومن ورائه الدعم الروسي لصربيا؛ حيث رفضوا المشاركة في الانتخابات المحلية الأخيرة كما عارضوا تسليم الفائزين فيها مقراتهم البلدية، وهم من العرقية الألبانية، وهو ما أدى إلى اندلاع الاشتباكات الأخيرة بين الصرب وقوات شرطة كوسوفو، حيث داهم متظاهرون صرب مقر البلديات في الأول من يونيو/حزيران الماضي، وكانوا يحملون شارات حرف Z التي تشير إلى شعار روسيا في غزوها الأخير لأوكرانيا.
كما أُصيب 93 من قوات الحماية الأوروبية المكونة من 700 فرد، واتّهم مسؤول السياسة الخارجية جوزيب بوريل، الصرب بعرقلة اتفاق ممرات الطاقة مع كوسوفو الذي جرى برعاية الاتحاد الأوروبي، كما دعا إلى إعادة الانتخابات في المقاطعات الأربع ذات الغالبية الصربية شمالي كوسوفو.
وفي الاجتماع الأخير الذي فشل في تقريب وجهات النظر، حذّر من أنّ "كوسوفو وصربيا تخاطران بفقدان فرصهما للتقدم في مسار عضوية الاتحاد الأوروبي" إذا لم تطبّقا الاتفاقات فيما بينهما.
وعلى الجانب الآخر يخشى الغرب من تحول الصراع بين كوسوفو وصربيا إلى العسكرة مرة ثانية، لا سيما في ظل الأنباء عن تحرك حشود عسكرية صربية باتجاه الحدود شمالي كوسوفو، كما صرّح وزير الدفاع الصربي ميلوس فوشيفيتش، بأنّ الرئيس ألكسندر فوتشيتش، قرّر وضع الجيش في حالة تأهب ورفع الاستعداد القتالي منذ اندلاع الاشتباكات في مناطق صرب كوسوفو، "وأمر بتحرك عاجل (للقوات) إلى حدود كوسوفو".
ويحاول الغرب الآن العمل على نزع فتيل الأزمة ومحاولة الضغط على حكومة كوسوفو من أجل إعادة الانتخابات وكذلك عدم تدخل القوات الخاصة في المناطق الشمالية المأهولة بالأقلية الصربية، تلافياً لأي تصعيد محتمَل، كما هددت واشنطن بتوقيع عقوبات على حكومة كوسوفو لأنّها لم تستشرها قبل اتخاذها قرار إرسال قوات شرطة إلى الشمال، وفق تصريح السفير الأمريكي لدى كوسوفو جيف هوفينير، بإدانة الخطوة، مضيفاً: "سأفاجأ في حال تمكّن أي مسؤول في حكومة كوسوفو من دخول الولايات المتحدة في هذه الفترة".
وفي ظل فشل المحادثات الأخيرة بين الجانبين برعاية أوروبا، تبرز تساؤلات حول المسارات التي يمكن أن تسير فيها الأزمة، حيث تخشى أوروبا من اشتعال صراع آخر بين جنباتها، ومزيد من التدخل الروسي وتوغله داخل منطقة البلقان، بعد أن يجد له موطئ قدم بدعم صربيا وموقعها وجيشها وبنيتها العسكرية، بما يمكن أن يشكّل تهديداً حاسماً على المصالح الغربية.
فإذا امتد الصراع إلى منطقة البلقان، فإنّ ذلك سيعطي روسيا زخماً جيوستراتيجياً كبيراً، إلى جانب وجوده العسكري في أوكرانيا، وامتداده من سواحل البحر الأسود إلى جنوب أوروبا وصولاً إلى البحر المتوسط، بما يمكن أن يهدد المشاريع الأوروبية المزمعة لتنويع مصادر الطاقة بعيداً عن موسكو، التي تقع اليونان ومدينة ألكساندرو بولس في القلب منها لتسييل وتغييز الغاز الطبيعي القادم من شرق المتوسط، كما قد يهدد الوجود الروسي وتحالفه المتحمل مع صربيا إلى عرقلة خطة بايدن الجديدة لنقل الطاقة النظيفة والمتجددة من جنوب آسيا إلى أوروبا مروراً بمنطقة البلقان.
كما أنّ أيّ وجود روسي في البلقان سيعطيها زخماً سيهدد باستمالة الدول الأخرى ذات الغالبية الأرثوذكسية، مثل اليونان، التي لها إرث في التحالف مع روسيا، لا سيما مع محاولة موسكو بناء أيديولوجيا جديدة بديلة عن الأيديولوجية السوفييتية الاشتراكية، تتقاطع فيها العقيدة الأرثوذكسية مع الموروث الأخلاقي والقيمي المحافظ، بديلاً للرأسمالية الليبرالية الغربية، برعاية مفكرين مثل أليكسندر دوغين، الذي يوصف بأنّه "عقل بوتين"، وتشكيله ما يسمى "الاتحاد الأورو آسيوي"، وكانت الخطوة الأولى في تلك الاستراتيجية هو احتلال القرم.
ففي قلب تلك الرؤية والاستراتيجية الجديدة التي يسميها دوغين "النظرية السياسية الرابعة"، تمدُّد روسيا في العالم الأرثوذكسي ومناطق النفوذ التقليدية لروسيا حيث العرقيات الناطقة باللغات السلافية.
وفي ظل محاولات الغرب نزع فتيل الأزمة، ومحاولته إبعاد روسيا عن البلقان، يخشى ألبان كوسوفو من أن يعمل الغرب على استمالة الصرب عن طريق الضغط على كوسوفو، وهو ما يفتح الباب أمام استعانة حكومتها بالوساطة التركية، التي تعد أحد أهم أطراف المشهد التاريخي والديني والعرقي الذي شهدته تلك المنطقة منذ قرون.
وعلى غرار الوساطة التركية في أزمة الحبوب الأوكرانية، يمكن أن تمثّل أنقرة بديلاً للتدخل الروسي، بالنظر إلى علاقاتها الممتدة مع طرفَي النزاع، وكذلك للثقل الدولي الذي تتمتع به وساطة تركيا وتدخلاتها في مناطق النزاع بدءاً من الحرب الأرمنية-الأذربيجانية، وكذلك دورها في ليبيا والصومال وغيرها، بكل من قوتها الناعمة والصلبة، وملاءتها التجارية وشراكاتها الممتدة مع دول البلقان؛ حيث تقيم علاقاتها الثنائية استناداً إلى مبادئ الاستقلال والسيادة واحترام وحدة الأراضي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.