واستندت عملية الانفتاح التركي على القارة السمراء على استراتيجية متماسكة بهدف إعادة الارتباط مع القارة في سياق عالم جديد يتشكل على أساس المصالح المتبادلة، وكذلك في خضم صعود القوى الناشئة.
وقد وُصف ذلك "بالانخراط الاستراتيجي"، حسب الأكاديمي المتخصص في العلاقات التركية -الإفريقية، فردريك دونيلي، في كتابه عن هذا الموضوع، والذي ركز على الاختلافات بين هذا الانخراط وأنماط الآخرين.
وتقول آن فيتزجيرالد (مديرة مدرسة بالسيلي للشؤون الدولية ومحللة في الأمن في شرق إفريقيا) بأن تركيا ميزت نفسها عن بقية الشركاء الدوليين الآخرين في القارة كالصين والأوروبيين والأمريكيين من خلال البناء على أرضية المشتركات الدينية مع دول وشعوب القارة وهو ما يسمح لها بالبناء أيضاً على سمعتها كبلد عضو في "الناتو" وشريك اقتصادي موثوق به.
تركيا كلاعب صاعد في إفريقيا
ويأتي الانفتاح التركي الكبير على القارة من منطلق تحول القارة السمراء من جديد إلى ساحة للتنافس بين القوى الاستعمارية التقليدية السابقة من جهة، والقوى الدولية الصاعدة كالصين وروسيا الاتحادية. وهنا يتساءل الباحث التركي في مركز "سيتا" (محمد أوزكان) وهو يتناول حالة تركيا من خلال نمط مساعدات التنمية لإفريقيا ما إذا كانت قوة صاعدة تعني مانحاً صاعداً أيضاً.
عمومًا، يؤرخ للانفتاح التركي نحو إفريقيا بصعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بالبلاد بعد فوزه في الانتخابات التي أجريت في نوفمبر 2002 ومن ثم بدأت تركيا في اتخاذ خطى ثابتة صوب القارة الإفريقية.
فمنذ أن أعلنت تركيا في العام 2005 عن "عام إفريقيا" تسارعت وتيرة العلاقات بين تركيا والدول الإفريقية، وقد كانت المصالح الاقتصادية هي الدافع الرئيس وراء ذلك الانفتاح. وقد وضع إعلان اسطنبول حول إفريقيا الذي صدر عقب القمة التعاون الإفريقي التركي التي انعقدت في 18- 21 أغسطس 2008، إطاراً شاملاً للتعاون من أجل تعزيز العلاقات وترجمة الشراكة بين الجانبين إلى واقع ملموس، حيث تقرر عقدها بانتظام مرة كل خمس سنوات.
ومما لا شك فيه، تعتبر تركيا حالياً فاعلاً جديداً في فضاء إفريقيا، ويترجم ذلك من خلال الزيارات المتبادلة والتمثيل الدبلوماسي؛ حيث ارتفع عدد السفارات التركية من 12 سفارة فقط في عام 2003 إلى 42 سفارة في العام 2021. في المقابل لدى الدول الإفريقية 32 سفارة بأنقرة. بينما زار الرئيس أردوغان منذ العام 2003 - منذ أن كان رئيساً للوزراء - القارة الإفريقية نحو 27 مرة. وقد تضاعف حجم التبادل بين الجانبين خمس مرات بين 2003 و2019، كما تخدم الخطوط الجوية التركية حالياً نحو 51 مدينة إفريقية.
حسب حنا آرمسترونغ (كبير محللي ومستشاري الساحل لدى "مجموعة الأزمات الدولية" فإن التنافس بين تركيا وخصومها الإقليميين، كمصر والإمارات العربية المتحدة، قد انتقل من القرن الإفريقي إلى الساحل، حتى ترى الأخيرة تزايد النفوذ التركي تهديداً لمصالحها الجيو استراتيجية وأن الانخراط التركي في الساحل يتركز بالدرجة الأولى على تعزيز التنمية وتعزيز المصالح الاقتصادية.
دبلوماسية متعددة الأبعاد
في هذا السياق، يلاحظ أن سياسة الانفتاح التركي تجاه القارة اتخذت مساراً تصاعدياً ومؤسسياً في آن واحد؛ حيث أعلن الاتحاد الإفريقي في عام 2018، تركيا "شريكاً استراتيجياً" للقارة. ولا يقتصر الانخراط التركي فقط على العلاقات الرسمية، فهناك أدوار نشطة للمنظمات غير الحكومية التركية لاسيما في مجال المساعدات والتعليم والصحة والزراعة.
وبجانب النموذج التركي الذي يركز على الاحتياجات الفعلية للمجتمعات المحلية في التعليم والصحة والزراعة كما تعمل على أساس برامج (تيكا)- بخلاف نماذج العون الغربية ذات الطابع النخبوي الذي يتجاهل هذه الاحتياجات أو يتعامل معها بطريقة فوقية- تلعب المنح التركية الدراسية للطلاب في المراحل كافة أيضاً دوراً كبيراً في الترويج لهذا النموذج لتعزيز العلاقات مع دول وشعوب القارة.
وتحتل الكتلة التصويتية للقارة الإفريقية (54 دولة) أهمية كبرى في سياسة تركيا الرامية لتشكيل عالم متعدد الأقطاب أو "تحالف الحضارات" أو إعادة بناء الجنوب العالمي في مواجهة الهيمنة الغربية في عالم أكبر من خمسة.
الشراكة على أساس المصالح المتبادلة
مع بدء تطبيق وثيقة الانفتاح على إفريقيا 2010، دخلت العلاقات مرحلة الشراكة الاستراتيجية الحقيقية، كما تعززت وتيرة التبادل التجاري بين تركيا ودول جنوب الصحراء، وتحديداً دول الساحل الكبير رغم ما تمر به من تحديات تتعلق بالاستقرار السياسي وانعدام الأمن والصراعات المسلحة، فضلاً عن تهديد الإرهاب.
ورغم ضعف حجم التجارة بين تركيا ودول منطقة الساحل، مقارنة مع الصين وفرنسا على سبيل المثال، فلقد زادت تلك التبادلات باضطراد؛ حيث ارتفع التبادل التجاري بين مالي وتركيا إلى عشرة أضعاف: من 5 ملايين دولار فقط في عام 2003 إلى 57 مليون دولار في عام 2019. ومؤخراً، كشف وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو – خلال مؤتمر صحفي مشترك بينه ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، بأن "حجم التبادل التجاري بين الجانبين تجاوز 25 مليار دولار"
تركيا والاتحاد الافريقي
كانت تركيا قد حصلت على صفة مراقب لدى الاتحاد الإفريقي في العام 2005، كما غدت شريكاً استراتيجياً للاتحاد الإفريقي في العام 2008. وفي ضوء ذلك لعبت تركيا دوراً كبيراً في تعزيز دور الاتحاد في الصومال، حيث كان لهذا الدور الكبير - من خلال الإسهام في إعادة بناء الجيش الوطني الصومالي - قد أكسب استراتيجية تركيا تجاه القارة مصداقية كبيرة. وكان الاتحاد الإفريقي يبحث عن شريك لتحمل عبء هذه المهمة التاريخية لإعادة بناء الدولة المركزية بعد نشره بعثته في الصومال (الأميصوم).
كانت الزيارة التي أجراها- رئيس الوزراء آنذاك - أردوغان مقديشو في العام 2011 نقطة تحول في الانفتاح التركي صوب القارة الإفريقية، انطلاقاً من هذا البلد الذي يكابد من أجل إعادة بناء الدولة المركزية التي انهارت عقب سقوط نظام محمد سياد بري 1991، وجاء افتتاح القاعدة التركية في مقديشو في 2017 ليترجم الإرادة التركية تجاه الصومال.
خلال زيارة العمل التي أجراها إلى تركيا السيد موسى فكي محمد رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي (30 سبتمبر، و1 أكتوبر الجاري) حيث التقى كبار المسؤولين جرى مناقشة الشراكة الاستراتيجية التركية – الإفريقية في ضوء التحضيرات لعقد القمة الثالثة التركية – الإفريقية التي تأخرت عن موعدها بسبب جائحة كوفيد -19، فضلاً عن " القضايا العالمية".
وخلاصة القول، إن السياسة التركية تجاه الصومال عكست وجهين مهمين ساعدا "أنقره" على تعزيز نفوذها داخل القارة هما: الدبلوماسية الإنسانية وإعادة بناء الدولة وكلاهما تحتاجه القارة بشدة في خضم الأزمات والصراعات التي تعصف بعدد من دولها.
تركيا كلاعب جديد في مجال الأمن والدفاع:
مؤخراً، اتخذت سياسات الانخراط التركي في القارة الإفريقية وجهاً جديداً، ألا وهو السياسات الأمنية والدفاعية، لاسيما بعد النجاح الباهر لطائراتها المسيرة في ليبيا، ولاحقاً في ناكورنو كارباخ بين أرمينيا وأذربيجان. فمنذ عام 2015 باتت تركيا لاعباً صاعداً في عالم الأمن والدفاع. وقد تجسد ذلك من خلال توقيع اتفاقيات دفاعية وغيرها من أشكال التعاون العسكري مع عدد من الدول الإفريقية منها النيجر (27تموز/ يوليو 2020)، وبرنامج للمساعدات الأمنية لمالي (2018)، وتقديم مساعدات من وزارة الدفاع التركية إلى تشاد لمواجهة حائجة كورونا (2019)، وتدريس عناصر الجيش اللغة التركية في غامبيا والسودان ونيجيريا. كما قدمت أنقره 5 ملايين دولار لقوات دول الساحل الخمس (G5 Sahel) وذلك بهدف تعزيز قدرات دول الساحل في مواجهة الإرهاب.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.