بعد كارثة الزلزال في تركيا الذي ضرب 10 ولايات تركية وخلّف دماراً هائلاً في مختلف المجالات، بدأت فرق الإنقاذ والصيانة العمل الدؤوب لتخفيف معاناة المنكوبين، وكان من ضمنها العمل على إعادة الكهرباء التي انقطعت عن كثير من المناطق بسبب الزلزال.
هذا الانقطاع أثار التساؤل حول الإجراءات التي يجب أن تتخذها الدول لتحقيق أمنها الطاقوي وضمان وصول الكهرباء إلى جميع أطرافها على مدار الساعة وبلا انقطاع.
السيادة والأمن الطاقي
تقاس سيادة واستقرار الدول بمدى تأمين احتياجاتها من الطاقة عبر مصادر محلية، هذا الجانب انتبهت له الدولة التركية باكراً وأعطته أولوية في خططها وميزانياتها.
فقد وضعت تركيا التشريعات اللازمة منذ أكثر من 10 سنوات لتعزيز إنتاج الطاقة من مصادر الطاقة المتجددة ومصادر الفحم الحجري المستخرج محليّاً.
ففي قطاع الطاقة المتجددة دعمت تركيا كلّاً من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية وطاقة حرارة باطن الأرض ومشاريع تحويل المخلفات إلى طاقة كهربائية، إذ التزمت الدولة شراء الكهرباء الناتجة بسعر ثابت بالدولار لمدة 10 سنوات مما شجّع كثيراً من الاستثمارات الأجنبية لدخول هذا القطاع.
ومن خلال هذه الحوافز والتشريعات حققت تركيا هدفها بالوصول إلى تغطية 66% من احتياجها من الكهرباء عبر مصادر طاقة محلية حسب تصريحات سابقة لوزير الطاقة والموارد الطبيعية فاتح دونماز.
وتشكّل الطاقة المتجددة ثلثي هذه النسبة، فيما تستورد تركيا الغاز الطبيعي والفحم لتغطية 34% من إنتاجها من الكهرباء. كما أن من المتوقع تغطية 11% إضافية بعد تشغيل محطة الطاقة النووية في مرسين التي ستبدأ الإنتاج في ذكرى تأسيس الجمهورية في العام الجاري 2023 .
حساسية الشبكات الكهربائية
تعمل منظومات الطاقة الكهربائية ضمن شبكات دقيقة جدّاً وتتطلب إنتاج كمية من الكهرباء تتوافق مع الاستهلاك اللحظي للشبكة الكهربائية، مما يعني أن جميع الطاقة الكهربائية التي تنتجها مصادر الطاقة المتجددة ومصادر الطاقة التقليدية (الغاز الطبيعي والفحم) جميعاً يجب أن تنتج كمية مساوية لجميع الأحمال على الشبكة الكهربائية في جميع المدن والقرى التركية.
في السنوات العشر الأخيرة ومع استثمار القطاع الخاص في إنشاء محطات الطاقة المتجددة أصبحت محطات الإنتاج موزعة في جميع الجغرافيا التركية، وكانت حصة مناطق جنوب تركيا كبيرة خصوصاً في مشاريع الطاقة الشمسية التي تمتاز بعوائدها المرتفعة في المدن الجنوبية نتيجة لارتفاع الأشعة الشمسية في تلك المدن وانخفاض أسعار الأراضي. هذا الأمر أدى إلى وجود عشرات محطات الطاقة الشمسية موزعة بأحجام مختلفة على مدن الجنوب التركي، متمركزة في مدن مثل شانلي أورفة وغازي عنتاب وكلس وقهرمان مرعش ومرسين وأضنة، إلخ.
لحظة الزلزال.. والتأثير في شبكة الكهرباء
في لحظة حدوث الزلزال من الطبيعي أن يقع انقطاع في شبكة الكهرباء، بسبب تمزق بعض خطوط النقل والتوزيع أو بسبب تلامس بعضها مع بعض مما يفعّل أجهزة الحماية التي تفصل المنطقة أوتوماتيكيّاً.
هذا الانقطاع يؤدّي إلى فصل الأحمال (المنشآت التي تستهلك الكهرباء) وكذلك فصل محطات إنتاج الكهرباء، ويؤدي بالضرورة إلى اختلال التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، الأمر الذي ينعكس على انفصال أحمال أو مولدات أكثر لاستعادة التوازن، هذا الأمر يؤدي أحياناً إلى ما يُعرف علميّاً بالـBlackout، وهو انقطاع كامل الشبكة الكهربائية أو جزء كبير منها في وقت واحد بسبب الاختلال بين الإنتاج والاستهلاك.
هذا الأمر لم يحدث في حالة الزلزال الأخير في تركيا، إذ استعادت الشبكة استقرارها بسرعة نتيجة لبنيتها القوية ولأنظمة الحماية القوية المدمجة فيها جيداً، والتي تمكنت من عزل المناطق المتضررة بسرعة وبدء العمل على إصلاحها مباشرة، فاستُعيدَت الكهرباء للمناطق الرئيسية كافة خلال بضعة أيام.
استراتيجية تخزين الطاقة
يُعتبر وجود أنظمة تخزين ضخمة للطاقة الكهربائية أمراً مهمّاً جدّاً لنموّ قطاع الطاقة المتجددة في أي بلد، وكذلك لمواجهة الكوارث مثل كارثة الزلزال.
فمن المهمّ معرفة أن بين محطات الطاقة المتجددة والكوارث الطبيعية نقاط تشابه من حيث تأثيرها في استقرار الشبكة.
فمحطات الطاقة الشمسية مثلاً يتغيّر إنتاجها من الكهرباء حسب كمية الإشعاع الشمسي الساقط عليها، وفي حال كانت محطات الطاقة الشمسية تشكّل أكثر من 30% من إنتاج أي بلد وحصل لها انخفاض متزامن في الإشعاع الشمسي الساقط عليها نتيجة غيمة أو ما شابه فسيؤدي هذا الأمر إلى اضطراب كبير في الشبكة قد يصل إلى الانقطاع الكامل Blackout.
وفي أوقات الكوارث يحدث انقطاع متزامن لأجزاء من الشبكة مما يخل بالتوازن بين الإنتاج والاستهلاك مما يؤدّي إلى الانقطاع الكامل أيضاً.
هذه المشكلات تُحَلّ بتعزيز أنظمة التخزين في الشبكة الكهربائية حيث تمتاز أنظمة التخزين بقدرتها على تخزين الكهرباء عند وجود فائض منها وقدرتها على ضخها للشبكة سريعاً في حال وجود نقص مفاجئ فيها.
في هذا السياق، فإن معرفة الدولة التركية بأهمية هذا الأمر جعلتها تطلق استراتيجية تخزين الطاقة الكهربائية عبر فتح الباب للاستثمارات في قطاع إنشاء محطات الطاقة المدمجة مع أنظمة التخزين مما يعزز استقرار الشبكة بلا أي استنزاف لميزانية الدولة، بل عبر المشاركة مع القطاع الخاص في التمويل والتنفيذ.
الثقة العالية بقطاع الطاقة في تركيا شجّع كبريات الشركات العالمية على أن تقدّم طلبات لهيئة تنظيم سوق الطاقة EPDK للحصول على رخصة لتنفيذ مشاريع في هذا القطاع، إذ وصل مجموع الطلبات المقدمة خلال أيام قبول الطلبات لما سعته 30 غيغاوات وذلك في كانون ثاني/يناير 2023، وهي سعة كبيرة جدّاً يصل حجم الاستثمار فيها إلى ما مجموعه 230 مليار دولار حسب تصريحات مصطفى يلماز رئيس هيئة تنظيم سوق الطاقة EPDK.
وحسبما أفاد الوزير دونماز في تصريحات أدلى بها مطلع العام الجاري فإن خطة الدولة التركية هي الوصول إلى سعة تخزين بقدرة 7.5 غيغاوات بحلول عام 2035، وبالإشارة إلى حجم طلبات الاستثمار الكبيرة التي تُسُلّمَت فهذا يمكّن تركيا من تحقيق أهدافها بعيدة المدى، خصوصاً في قطاع الطاقة، بشكل أسرع من المخطط له للاهتمام الكبير من الشركات العالمية -مثل Enercon, Siemens Gamesa- بسوق الطاقة التركية وقدرة الدولة على توفير التشريعات والحوافز المناسبة في الوقت المناسب.
توفير أنظمة تخزين الطاقة في تركيا بشكل سريع وموزع في أكثر من نقطة على الشبكة، يعني زيادة إنتاج الطاقة من مصادر طاقة محلية متجددة، مما يؤدي إلى قلة الاعتماد على الفحم والغاز المستورد وقدرة أعلى على مواجهة الزلازل والكوارث المختلفة وتحقيق الأمن الطاقي الذي تسعى له أي دولة تريد أن تكون ذات شأن بين الدول.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.