بنهاية ديسمبر/ كانون الأول الفائت انتهت الولاية الشرعية القانونية للمجالس التشريعية الصومالية المركزية والفيدرالية بمجلسيها الشعب والشيوخ، وبنهاية يناير/كانون الثاني انتهت الولاية التنفيذية للرئاسة ورئاسة الوزراء الصومالية، وما تزال محطة الانتخابات قلقة تنتظر الحسم ونتائجه، فإما أن تجرى الانتخابات في العاصمة وثلاث ولايات فحسب دون الولايتين الأخريين مع انقسام كبير سيصاحب هذا القرار، وإما تأجيل مواعيد هذه الانتخابات إلى أجل يتوافق عليه الجميع، وإما المراوحة في المكان بحثاً عن إجماع عزيز.
وما يزال الجميع بانتظار مخرجات المؤتمر التشاوري في مدينة دوسمريب لحل الخلافات في تنفيذ اتفاقية 17 سبتمبر/أيلول المتعلقة بالانتخابات الفيدرالية.
وبانتظار إجراء الانتخابات التي ما تزال مبنية على المحاصصات القبلية فإن عيون الدول الإقليمية والدولية تتجه إلى هذه البقعة الاستراتيجية من القرن الإفريقي، والتي تطل على ساحل طويل هو الأطول إفريقياً يزيد على 3000كم، وتمتد مياهها الإقليمية نحو 200 ميل بحري في عمق المحيط الهندي، وموقعها هذا كما يمنحها أفضلية استراتيجية فإنه يفتح عليها باب تدخّل كبير.
أثيوبيا
تعدّ إثيوبيا هي الطرف الإقليمي الأشد تأثيراً في الصومال والأكثر تأثراً به نظراً للحدود الطويلة معه، وانتماء عدد كبير من سكان شرق إثيوبيا إلى القومية الصومالية، ووجود نزاع قديم في هذا التقسيم الاستعماري الذي فصل الصوماليين عن بعضهم.
وتنبني العلاقة التاريخية بين البلدين على سلسلة طويلة من الصراعات الحادة التي تحوّل فيها رموزها إلى أبطال، وتسعى إثيوبيا إلى وجود حكومات غير معادية لها في الصومال، وبقاء منفذ بحري لها فيها، وضمان استقرار الأوضاع في إقليم الصومال الإثيوبي.
كما تهتم إثيوبيا باستقرار نسبي للصومال يخدم أمنها واقتصادها واستقرارها ولكنها في الوقت نفسه لا تريد للصومال أن يكون قوة مؤثرة تدفعه إلى المطالبة بحقوقه التاريخية في الشرق الإثيوبي أو تثير الروح القومية في هذا الشرق، ولا تتردد إثيوبيا في استخدام القوة العسكرية المباشرة لممارسة دورها إذا لزم الأمر، أو من خلال قوة الاتحاد الإفريقي الذي يتخذ من العاصمة أديس أبابا مقراً له، وهي القوة التي تحظى بدعم دولي كبير، وفي هذه الانتخابات تسعى إثيوبيا لفوز الأقرب إلى مصالحها، بمن فيهم الرئيس الحالي محمد عبد الله فرماجو الذي حافظ على علاقة جيدة مع إثيوبيا طيلة فترة ولايته، ولا تبدو أوغندا بعيدة عن إثيوبيا في مصالحها مع الصومال.
السودان
ويعد السودان بما له من حضور ثقافي ومعرفيّ وخيريّ لم ينقطع في فترة الانهيار السياسي في الصومال عبر منظماته الدعوية والخيرية وبعثاته التعليمية في الصومال واستضافته لآلاف الطلاب الصوماليين في جامعاته.
وقد تعزز هذا الحضور في ملفات أمنية حساسة ساعدت السودان في تأكيد حضوره كدولة مؤثرة إقليمياً، ولكن هذا الحضور تراجع كثيراً إلى حد الزهد بسبب الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة بعد سقوط نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير، والتغيّر الكبير في منظومة الأجهزة الأمنية التي قادت العمل في الصومال ونسجت شبكة علاقاته، ومع ذلك فإن بعض المرشحين الكبار يتواصلون مع السودان بالاتصال المباشر عبر الزيارات لمراكز النفوذ الباقية في النظام الجديد أو الاتصالات غير المباشرة، لاستغلال علاقاتهم السابقة واستباقاً لاستئناف الدور السوداني مع تحسّن الأوضاع.
مصر
أما مصر والتي كانت تحظى بحضور كبير في الصومال في الحقبة الناصرية فإن دورها لا يكاد يذكر في الصومال، ولا تكاد توجد قوة حقيقية تعتمد على الظهير المصري في سلوكها السياسي، حيث لم تقدم مصر ما يجعل العلاقة مغرية أو مفيدة للصوماليين منذ عقود، كما أن السياسة المصرية تتخذ سلوكاً عدائياً تجاه الحكومة الصومالية على خلفية بقائها على الحياد في ملف سد النهضة الإثيوبي، وافتتاحها خط علاقة إيجابياً مع الإقليم الصومالي الذي أعلن انفصاله رسمياً عن الصومال مطلع التسعينات، وفي العموم فإن تدخلاتها ليس لها أثر كبير في الانتخابات الصومالية إلا في حال تنسيقها مع دول مؤثرة أخرى.
وكان يمكن لليمن أن يلعب دوراً كبيراً في هذه الانتخابات لو كانت أموره مستقرة، لكن الاستنزاف السياسي في اليمن وتعدد الشرعيات يجعله بعيداً عن أي تأثير مباشر في مجرى هذه الانتخابات.
السعودية
أما السعودية فحضورها اجتماعي ثقافي قائم بالأساس على المدرسة السلفية التي أسهمت بقوة في تخليقها في الصومال، ومدى مشاركة هذه المدرسة في السلطة التنفيذية أو التشريعية أو المجتمعية. ولكن هذه المدرسة ليست على وئام واتفاق مع مكوناتها، فقد تخرجت منها تيارات عدة ينتمي بعضها إلى التيار السروري الإخواني وأخرى إلى التيار الجهادي وثالثة إلى التيار الدعوي الصرف ورابعة إلى المؤسسات ذات العلاقة التقليدية مع الدولة السعودية ومؤسساتها، ولم تستطع السعودية الاستفادة كثيراً من حضورها الثقافي الكبير في الصومال ولا من الجالية الصومالية القديمة فيها، ولا يبدو حضورها الفعلي ونشاطها الميداني متناسباً مع إمكانياتها في الصومال، ولذلك لا يظهر لها دور مؤثر في السياسة الصومالية مباشرة، مع حرصها على مراقبة الأوضاع هناك لكيلا يتحول الصومال ثانية إلى أزمة أمنية كما جرى في موسم القرصنة البحرية في خليج عدن والمحيط الهندي.
الإمارات
أما الإمارات فقد تطور نشاطها بشكل ملحوظ في الصومال، وأصبح غاية في التأثير لأغراض ربما لا تتعلق بالمصالح الاستراتيجية الإماراتية بقدر ما تتعلق بمواقف أيديولوجية حوّلتها السياسة الإماراتية إلى برنامج عمل دولي وإقليمي يهدف بالأساس إلى محاربة ما يسمى بالإسلام السياسي أينما وُجد، مع إضافات مهمة تتعلق بالانسجام في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة بنكهة خاصة.
وتتركز السياسة الإماراتية على دعم القوى المعادية للمحور التركي القطري في الصومال ومنع التقارب معه، ودعم الولايات المعارضة للسلطة المركزية في مقديشو المتعاونة مع هذا المحور، وتطوير العلاقة المباشرة مع هذه الولايات مستفيدة من النظام الفيدرالي الصومالي الذي هو أشبه بحكومات مستقلة داخل الصومال لها برلماناتها وجيوشها وسياساتها الاقتصادية شبه المستقلة.
كما أنها تنسج شبكة علاقات مع عشائر تلك المنطقة وتدعم بعضهم، وتنظم لهم زيارات متكررة إلى الإمارات وتتيح لهم الاستفادة من نظامها الاقتصادي وشبكة التجارة فيها، كما تعمل على تطوير قطاعات عمل خاصة فيها ولا سيما في السواحل، وعقد اتفاقيات لتطوير المواني أو إدارتها أو تأهيلها، بالإضافة إلى دعم إنشاء جيوش بعض الولايات المقربة منها، إلا أنها تعاني من ضعف التواصل مع عدد كبير ممَّن فتحت علاقات معهم وانقطاع المنح والمساعدات والرواتب المخصصة لبعض قطاعاتهم وشخصياتهم، والتراجع عن تنفيذ برامج مهمة معهم أو تجميدها.
تركيا وقطر
فيما يشكل المحور التركي القطري الرافعة الكبرى في الانتخابات الصومالية نظراً للوجود الكبير لهذا المحور في الصومال، وترجمته المباشرة للتحالف مع الدولة الصومالية باستثمارات كبيرة في البنية التحتية وتعزيز العلاقة مع منظومة الدولة والجيش والأجهزة الأمنية وتأهيلها وتدريبها، وزيادة الفاعلية الثقافية والتعليمية، ووجود رؤية استراتيجية ناظمة لهذه العلاقة، مع رغبة بالانفتاح أكبر على جميع الولايات والتوجه أفقياً نحو القوى المجتمعية غير المندمجة مباشرة في نظام الحكم.
ومع خروج الولايات المتحدة من الصومال إثر عمليات إعادة الأمل، ثم قرار إدارة ترمب بسحب القوات الأمريكية الصغيرة من الصومال إلى مناطق أخرى في شرق إفريقيا، وتراجع عمليات القرصنة البحرية الصومالية وزيادة قدرة الدولة على مواجهة المجموعات القريبة من توجهات القاعدة، فإن دور واشنطن السياسي يتقلّص جداً في الصومال، ولا تجد هناك من يرغب في التعاون معها مباشرة أو الإعلان عن علاقة جيدة معها، خاصة أن الولايات المتحدة تفرض رقابة قوية على كل المجالات في الصومال، وتعدّ رقابتها هذه من أكبر العوائق التي تواجه البلاد اقتصادياً.
الولايات المتحدة
ولا تبدو الولايات المتحدة مهتمة إلا بأمر مواجهة حركة الشباب الصوماليين المعدودة ضمن القاعدة لخطرها على المصالح الأمريكية في المنطقة كما تقول الإدارة الأمريكية، وهذا الجانب لم يعد يؤرق الناخب الصومالي مع كثرة المهددات الأمنية التي يواجهها.
وكان قرار ترامب بسحب قواته في ديسمبر/كانون الأول الماضي مع قرب الانتخابات في الصومال مؤشراً على تجاهل واشنطن للصومال، فيما تتأكد المقولة التاريخية في وصف العلاقات الأمريكية الصومالية بأنها متأرجحة متذبذبة لا تتسم بالثبات الاستراتيجي وليس لها عمق سياسي ميداني وهي منسجمة أكثر مع إثيوبيا، كما أن السياسة الأمريكية ما تزال مقصورة على الدعم الأمنيّ الموجّه لمكافحة الجماعات الموصوفة بالتطرف، ودعم تأسيس جيش وطني صومالي، ودعم قوات الاتحاد الإفريقي العاملة في الصومال، وبرنامج إغاثة للاجئين والفئات الأكثر تضرراً من الجفاف سنوياً، فيما يلحق الدور الأوروبي بالدور الأمريكي بالتبعية كمسهّل للعمليات الأمريكية وبرامجها في المنطقة، ولا ينفرد برؤية عملية بعيداً عن الولايات المتحدة.
وفي الجملة فإن نتائج الانتخابات الصومالية في كل مواقعها تعبير عن قوة الفائزين الصوماليين وقوة حلفائهم ووزنهم معاً.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.