منذ قيام الجمهورية اللبنانية وحتى يومنا هذا، ورغم نشوب حروب ضروس لسنوات طويلة، إلا أن العام 2020 كان من أسوأ السنوات على الإطلاق.
لا بصيص أمل لنهضة لبنان اقتصادياً في الأفق القريب. بخاصة أنه دخل فعلاً في حلقة الانهيار الاقتصادي جراء هبوط العملة المحلية منذ بداية احتجاجات 17 تشرين الأول/أكتوبر. تبعها الحالة الاقتصادية الصعبة التي زاد من حدتها انتشار جائحة كورونا في لبنان، وصولاً إلى الدمار الهائل والكارثة المحقة الذي خلفها انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب الماضي.
كل هذا أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم من 56.53% في مايو/أيار إلى 89.74 % في يونيو/حزيران الماضي. ذلك بعد تخلف الحكومة اللبنانية عن سداد دين سيادي في مارس/آذار، بحسب ما أظهرته دائرة الإحصاء الحكومية اللبنانية.
إقفال المصالح التجارية حتى إشعار آخر
ومما لا شك فيه أن القطاع التجاري الخاص تأثر بشكل كبير في تدهور الاقتصاد اللبناني. ذلك أن قطاعاً كبيراً من المصالح التجارية كالمطاعم والملبوسات ومراكز التجميل وغيرها تأثر بشكل مباشر بتدني القدرة الشرائية للمواطن اللبناني بفعل تدهور العملية المحلية.
ما دفع الكثير من الأسواق والمصالح التجارية إلى إغلاق أبوابها وإطفاء أنوارها والانسحاب فوراً قبل تكبد المزيد من الخسائر المالية. ولم يبق من أثرها سوى المكان والعلامة التجارية التي كانت تدل عليها.
وهنا أبرز العلامات التجارية التي خرجت من السوق اللبناني، بحسب موقع "فرينشايزنج":golden goose أحذية رياضية – haagen dazs آيس كريم - Jacadi ألبسة أولاد وأطفال – Adidas ألبسة رياضية وأبقى على عدد من محال الـ Outlet،
– Massimo dutti ألبسة -Isabel marant أزياء -Just cavalli ألبسة وإكسسوارات -Karen millen ألبسة -Mirella أكسسورات وهدايا منزلية – Mayoral ألبسة أطفال – Leboutin أحذية نسائي – Coca cola مشروبات غازية.
تحت شعار #باقون_هنا"، أعلنت مؤسسات تجارية عدة مثل "مايك سبورت"، "كارترز"، "ماري فرانس" و"براندز فور لس" إقفال أبوابها في لبنان حتى إشعار آخر، وذلك بحسب بيانات تم نشرها على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي.
وأعلنت شركة "مايك سبورت" في بيان على موقعها الإلكتروني أنّه "نظراً لتردّي الوضع السياسي والاقتصادي في البلد، ارتأت الشركة عدم انخراطها في لعبة البيع والشراء غير الرسمية للدولار الأمريكي وتحديد أسعار البضائع لديها على هذا الأساس".
وأكدت أنها "ستقفل فروعها كافة على أمل ضبط الأوضاع من المراجع المختصة على الصعد كافة لإعادة الدورة الإقتصادية إلى حركتها الطبيعية".
فيما قالت مجموعة "براندز فور لس" في بيان لها: "لأننا نرفض التخلي عن قيمنا، ورفع أسعارنا بشكل جنوني، سنقفل أبواب متاجرنا في لبنان حتى إشعار آخر".
من جهة أخرى، أعلنت شركة أديداس" أنها بصدد إغلاق مكاتبها في لبنان اعتباراً من نهاية العام الجاري، وذلك بعد تعليق إدارتها المباشرة لمتاجرها في البلاد.
وقالت الشركة في بيان إن قرار الإغلاق يعود الى "التحديات الاقتصادية المستمرة في البلاد".
في حين أغلقت شركة كوكا كولا في لبنان أبوابها منذ نهاية شهر مايو/أيار الماضي، وسرحت جميع موظفيها بسبب الضائقة الاقتصادية والمالية والظروف الصعبة التي تمرّ بها أفرعها في لبنان.
وفي المشهد العام للأزمة التي يعاني منها قطاع التجارة لبنان، يكشف رئيس الجمعية اللبنانية لتراخيص الامتياز، يحيى قصعة، أنها "تعود لعام 2012 حيث بدأ يشهد تراجعاً بشكل ملحوظ رويداً رويداً وصولاً إلى عام 2019، حينها أصبح القطاع متهالكاً جداً".
ويضيف قصعة في حديثه لـ TRT عربي: "بسبب الأوضاع الصعبة التي مرت على لبنان بدءاً من احتجاجات 17 تشرين وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت. كل هذا يشير إلى أن كثرة الأزمات التي تقع في نفس المنطقة بتسارع وبطريقة متتالية، تؤدي إلى انخفاض القدرة الشرائية للمواطن، وتراجع الطلب على السلع، الأمر الذي يخفض من حجم المصالح التجارية في المنطقة".
ويقول: "لم تبدأ الأزمة الاقتصادية ونحن في البحبوحة، بل بدأت حين كان العمال قد وصلوا إلى حالة صعبة جداً، وبالتالي هذه الخطوة جعلت أصحاب المصالح يأخذون قراراً بعدم الخروج من السوق، بل أصبحوا مضطرين إلى إعادة حساباتهم، والانتقال إلى مرحلة يصمدون فيها أكثر".
ويؤكد أن "أصحاب المصالح التجارية عادة يعتمدون النظر إلى الأمام لمعرفة إلى أين يتجهون بعد ستة أشهر، أو سنة، أو ثلاث سنوات، أي في المنظور القريب. نحن في لبنان لا نستطيع أن نرى ماذا سيحدث بعد 15 يوماً، الأمر الذي يجعل أصحاب المصالح يفكرون بعدم افتتاح علامة تجارية جديدة في لبنان، والتموضع بالمتاح حالياً في المتاجر، أو سحبها من السوق والهجرة خارج لبنان".
ويتابع: "نحن نخسر ما هو أهم من المصالح وهو اليد العاملة والمواهب. عادة يتم تدريب الموظفين في قطاع التجارة بطريقة عالية المستوى وفق الأنظمة الأساسية لعملنا، نظراً لأننا نفتتح فروعاً كثيرة. حالياً هؤلاء الموظفون باتوا يفكرون بشكل جدي بترك البلاد والهجرة. هذه هي الخسارة الأكبر لأن المواهب البشرية هي التي تقوم بالتصنيع والتصدير إلى الخارج، وهي التي تعمل على تطوير المستقبل".
تدني القدرة الشرائية للبنانيين
في الآونة الأخيرة، اختلف نمط الحياة الذي اعتاد عليه المواطن اللبناني عمّا كان عليه في الماضي. ذلك بسبب الضائقة الاقتصادية التي زارت غالبية منازل اللبنانيين، الأمر الذي منعهم من الاستمرار بالإنفاق والبذخ بشكل كبير. كما أجبروا على الاستغناء عن الكثير من الكماليات، على مبدأ تطبيق المثل اللبناني "خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود".
إذ يتقاضى نحو 95% من القوى العاملة في لبنان رواتبهم بالليرة اللبنانية، ما أدى إلى تراجع القدرة الشرائية جراء انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الأمريكي، ما انعكس بارتفاع حاد وملحوظ في أسعار السلة الغذائية للأسرة المؤلفة من 5 أفراد.
ذلك أن قيمة السلة الغذائية لتلك الأسرة ارتفعت بمعدل 122% وهي تقدر حالياً بقيمة مليون ليرة لبنانية، بعدما كانت تبلغ نحو 450 ليرة لبنانية في يونيو/حزيران الماضي.
"إذا خُيرت بين أن أشتري حذاءً لإبني من أديداس أو أن أحضر طعاماً لعائلتي.. سأختار الأخيرة لأنها باتت أولوية الآن"، هكذا يوضح الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة الحالة الاقتصادية الصعبة التي وصل إليها المواطن اللبناني.
ويقول: "جميع الشركات التجارية التي تغلق أبوابها هي مصالح لا تُصنع في لبنان، ما يعني أن العملية تقوم على الاستيراد والتصدير. ويتطلب استيراد العلامات التجارية من خارج البلاد دولارات كثيرة. وبما أن الدولار لم يعد مدعوماً في لبنان، فقد ارتفع سعر صرف الدولار نسبةً لليرة اللبنانية. ذلك في وقت لا يزال المواطن اللبناني يقبض معاشه بالليرة اللبنانية، ما يعني أن قدرته الشرائية تراجعت بشكل كبير ما يحول دون إمكانيته شراء هذه العلامات التجارية".
ويشير إلى أنه "في علم الاقتصاد حين يتدنى المدخول المالي تصبح الأولوية للمواد الأساسية. وبالتالي انسحاب هذه العلامات التجارية يشكّل ما يسمى باستراتيجية الخروج من السوق، وهي تعني أنهم يقومون باختيار الخروج بعد تقييمهم للوضع وللخسائر التي يمكن أن تلحق بهم من جراء استمرارهم".
ويوضح أن "الشركات التجارية أقفلت أبوابها كي تحد من خسائرها المستقبلية، لأنه كلما استمر وجودهم، تكبدوا خسائر أكبر كدفع الإيجارات وغيرها".
ويعتبر أن "التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية تتجه أكثر إلى العمالة اللبنانية، فنسبة كبيرة من العمال قد صرفوا من أشغالهم، الأمر الذي خلق بطالة إضافية، ما يعني استهلاك أقل وزيادة في نسبة الفقر، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي، وهذا مؤشر سلبي جداً. ناهيك عن أن الاقتصاد لم يكن واقفاً على أسس سليمة لأن هذه الشركات هي مستوردة وليست مصدرة".
ويشار إلى أنه بعد احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول الماضي نحو 180 ألف عامل فقدوا وظائفهم. في حين ارتفعت نسبة البطالة في لبنان عام 2019 من 36% بشكل عام، و60% في صفوف الشباب، إلى أكثر من 55% بعامة في العام الحالي. في حين قدرت نسبة البطالة في صفوف خريجي الجامعات هذا العام بنحو 98%، ذلك بحسب رئيس"مؤسسة لابورا" الأب طوني خضرا.
ويرى أن "لبنان يتجه نحو المجهول اقتصادياً. المشكلة تكمن في أن الاقتصاد اللبناني كان يعتمد على الدولار. بعد إقامة قيود على حركة دخول الدولار إلى لبنان، توقفت التجارة لأنها تعتمد بشكل كبير على الدولار، بالتالي تدهور الاقتصاد بشكل أسرع".
في حين يوضح رئيس جمعية تراخيص الامتياز “الفرنشايز”، يحيى قصعة، أن المبيعات في قطاع الملابس والتجهيزات الرياضية تراجعت منذ بداية الأزمة في لبنان حتى اليوم 62%. علماً أن الأرقام السابقة كانت تشير إلى أنه من عام 2012 حتى 2019 تراجعت نحو 56%. الأمر الذي يشير إلى أن هذه الأوضاع الاقتصادية في هذا القطاع أصبحت كارثية، إذ لا يعمل إلا بنحو 15%.
أما قطاع الكماليات (ساعات ومجوهرات) فقد تراجع بنحو 75% من نسبة الـ 55% التي كان قد تراجعها بين 2012 2019 . ولا تتجاوز نسبة المبيعات في هذا القطاع أكثر من 20%.
لم تستثن الأزمة الاقتصادية التي تخيم على لبنان أي طبقة اجتماعية أو مصلحة تجارية. بيد أن عشرات آلاف اللبنانيين فقدوا وظائفهم جراء إغلاق العديد من المصالح التجارية، أو قلصت رواتبهم التي هي أصلاً ما زالت تصرف بالليرة اللبنانية. في حين بات نصف السكان تقريباً يعيشون تحت خط الفقر. تُرى ما الذي ينتظره اللبنانيون أكثر مع اقتراب الذكرى الأولى لاحتجاجات أكتوبر؟