لا يختلف مشهد اللاجئين الحائرين وهم يحاولون عبور الحدود الهنغارية النمساوية في خريف عام 2015 عن صور لاجئين آخرين في مراكز الإيواء في اليونان أو إيطاليا عام 2023.
في الحالتين هم لاجئون فارّون من مناطق أزمات سياسيّة بحثاً عن الأمن في دول الاتحاد الأوروبي، لكنَّ الفرق بين اللّحظتين كبير، فما كان يُعرف بـ"ثقافة الترحيب" التي ميّزت سياسات الحكومات الأوروبية إزاء اللاجئين في أثناء "أزمة اللجوء" قبل 8 أعوام صار مشهداً مفقوداً اليوم.
ويتّفق المراقبون على أن المزاج العام في دول الاتحاد الأوروبي أضحى يركّز على ضرورة ألّا تتكرر أزمة 2015 عندما دخل إلى ألمانيا وحدها قرابة مليون شخص، معظمهم من الشرق الأوسط.
وعند متابعة ظروف اللاجئين في كل دولة أوروبية على حدة يتبيّن أن مقاربات دول الاتحاد الأوروبي للملف مختلفة، لكنّها تُجمع على ضرورة خفض أعداد اللاجئين والتصدي لما يوصف بـ"الهجرة غير النظاميّة".
فما أسباب هذا التحول؟ وكيف تتعامل الدول الأوروبية مع واحدة من أهم القضايا التي باتت تتصدّر أجندة الحكومات والأحزاب والرأي العام الأوروبي؟
ألمانيا.. حلول صارمة في إطار أوروبي
في ألمانيا عاد ملف الهجرة واللجوء منذ أشهُر إلى تصدر أولويات النخب السياسية والحزبية، ففي الوقت الذي ما زال فيه الائتلاف الحكومي الذي يتزعمه الحزب الاشتراكي الديمقراطي -ويكوّنه الخضر والليبرالي- يبحث عن سبل رأب الصدع بين مواقف الأحزاب الثلاثة بشأن الملف، تواظب البلديات والمدن الألمانية على التحذير من وصول طاقتها الاستيعابية للاجئين إلى ذروتها.
وفي وقت تعجز فيه السلطات المختصّة عن خفض أعداد اللاجئين الذين يفضلون ألمانيا على غيرها من الدول الأوروبية، تزداد الضغوط على المستشار أولاف شولتس وعلى وزيرة داخليته نانسي فيزر التي أوعزت إلى الشرطة الاتحادية بالعودة إلى مراقبة الحدود مع بولندا والتشيك وسويسرا، أملاً في ضبط حركة الهجرة غير النظامية.
ورغم ذلك فإن أرقام وزارة الداخلية الألمانية تفيد باستمرار ارتفاع أعداد اللاجئين القاصدين للأراضي الألمانية، ما يسهم في زيادة شعبية الأحزاب اليمينيّة الشعبوية والمتطرفة.
ووفق آخر استطلاع رأي أجراه معهد فورسا المختص، فإن الحزب اليميني المتطرف (البديل) حصل على أعلى نسبة تأييد في تاريخه 23%، متفوقاً على أحزاب الائتلاف الثلاثة (الاشتراكي الديمقراطي 14%، والخضر 13%، والليبرالي 5%)، فيما جاء الاتحاد المسيحي الديمقراطي المعارض في المركز الأول بنسبة 31%.
وبينما فضّلت الحكومة الألمانية التوصل إلى اتفاق أوروبي يوحد إجراءات مراقبة الحدود ويسهل إجراءات الترحيل إلى "دولة ثالثة"، جنح الاتحاد المسيحي الديمقراطي المعارض إلى التماهي مع أنموذج رواندا الذي تروّج له الحكومة البريطانية.
وبعيداً عن هذه النقاشات والخلافات الحزبية، تشير سياسة حكومة برلين إلى نهاية ما يُعرف بـ"ثقافة الترحيب" التي سادت في أثناء ما عُرف بـ"أزمة اللجوء" عام 2015 و2016.
النمسا.. اليمين المتطرف يتصدّر الاستطلاعات
وتشمل لعنة انخفاض شعبية الأحزاب التقليدية بسبب "أزمة اللجوء" المستشار النمساوي كارل نيهامر كذلك، إذ بادر الأخير باتخاذ إجراءات مشدّدة على حدود بلاده الجنوبية والشرقيّة للحدّ من تدفق اللاجئين.
وكانت هذه الإجراءات سبباً في خفض أعداد اللاجئين القاصدين للأراضي النمساوية، لكنها تسبّبت أيضاً في تقويض إحدى أهم قيم الفكرة الأوروبية وهي حرّية حركة الأفراد والبضائع، ما ألحق ضرراً بمفهوم حرّية الحركة والاقتصاد أيضاً.
ومنذ عودة "أزمة اللجوء" إلى واجهة اهتمامات الرأي العام في النمسا، يتصدر حزب الأحرار اليميني الشعبوي استطلاعات الرأي، ما قد يساعده على كسب الانتخابات البرلمانية المقبلة.
وفي حال فوز هذا الحزب في الانتخابات المقبلة فإن ذلك سوف يعتبر سابقة في بلد تعوَّد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أن تسيّره حكومات وسطيّة.
فرنسا.. الخوف من اليمين المتطرف
وفي فرنسا تبنّى البرلمان تشريعاً مثيراً للجدل أقرَّ تعديلات صارمة على موضوع الهجرة، واعتُبر نصراً لليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان، رغم أنه مشروع حكومي.
وفجَّر القانون موجة انتقادات في أوساط حزب الرئيس إيمانويل ماكرون (النهضة)، كما أدّى إلى استقالة وزير الصحة أوريليان روسو، وحدوث اختلافات حادّة في الآراء داخل حكومة يمين الوسط الفرنسية.
وتُعَدّ تسوية أوضاع "المهاجرين غير النظاميّين" من أبرز النقاط التي تضمّنها القانون، ما يعتبر ضمنياً تفويضاً لترحيل الأجانب غير المرغوب فيهم.
ويضمُّ قانون الهجرة الجديد اشتراط تقديم المساعدات الاجتماعية والطبية للمهاجرين، ومسألة فقدان الجنسية الفرنسية، ولمّ شمل العائلات، وحصة المهاجرين الذين سوف تستقبلهم فرنسا مستقبلاً.
ويلوم المراقبون الرئاسة الفرنسية لأنها استلهمت روح بعض موادّ هذا القانون من برنامج اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان نظراً إلى استخدامه مصطلح "الأفضليّة الوطنية"، التي تعطي الأولوية في تقديم خدمات الدولة للمواطنين على حساب المهاجرين.
وعلّقت مارين لوبان فور اعتماد القانون بأن حزبها "حقق نصراً سياسياً كبيراً"، لا سيّما أن التشريع الجديد يرفض منح الجنسية الفرنسية لأبناء المهاجرين بشكل تلقائي، ويقلّص سبُل حصول الأجانب على المساعدات الاجتماعية مثل مِنح السكن.
وفي المقابل مَنح هذا القانون بعض الامتيازات للمهاجرين القصّر المهدّدين بالترحيل مثل منع وضعهم في مراكز احتجاز، كما منح المهاجرين غير النظاميين حق الإقامة إذا عملوا في قطاع مهني يصعب إيجاد أيادٍ عاملة تسدّ احتياجاته.
إيطاليا.. جورجيا ميلوني في عين العاصفة
في إيطاليا كانت "أزمة اللجوء" سبباً في بزوغ نجم رئيسة الوزراء الحالية جورجيا ميلوني، التي تمكّنت عبر الترويج لسياسة لجوء صارمة إلى إيطاليا والاتحاد من كسب تأييدٍ أهّلها لتصبح رئيسة وزراء واحدة من أهم الدول الأوروبية.
ورغم وعود خفْض أعداد اللاجئين التي قدّمتها ميلوني في حملتها الانتخابية واتخاذ مزيدٍ من إجراءات تقييد دخول اللاجئين، فإنّ الأرقام تظهر أن أعداد اللاجئين الوافدين هذا العام إلى إيطاليا عبر البحر المتوسط سجّلت ارتفاعاً ملحوظاً.
وسجلت وزارة الداخلية وصول 42 ألف شخص في الأشهر الأولى من 2023 مقابل 11 ألفاً عام 2022.
وإذا كانت حكومة ميلوني تعهّدت كذلك بتشييد معسكرات لتجميع اللاجئين والبتّ بسرعة في طلبات لجوئهم قبل ترحيل المرفوضين منهم، فإن عدم وجود اتفاقيات مع بلدان إفريقية لاستقبال هؤلاء اللاجئين يجعل مهمة رئيسة الوزراء شبه مستحيلة.
ورغم تمكّن ميلوني من استمالة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى صفّ سياستها المتشددة، فإنّ تنظيم دوريات في مياه البحر المتوسط لرجوع اللاجئين إلى شمال إفريقيا يظل مخالفاً للقانون الدولي.
ومع نفاد أوراق ميلوني في هذا الشأن حاولت المسؤولة الإيطالية بالتعاون مع رئيسة المفوضية الأوروبية توقيع اتفاق مع الحكومتين التونسية والألبانية، إلّا أن هذه المحاولات فشلت مع تونس وتواجه صعوبات مع ألبانيا.
وتبقى سياسة اللّجوء الإيطالية محفوفة بالمخاطر، فمن ناحيةٍ لا تريد ميلوني الخروج عن الإجماع الأوروبي والإصغاء لما تطرحه حكومتا برلين وباريس، ومن ناحية أخرى عليها الاستجابة لطلبات حلفائها في الحكومة وتحديداً شريكها في الائتلاف ماتيو سالفيني المعروف بطرحه المتشدّد إزاء الهجرة واللجوء.
إسبانيا.. تغيّر موقفها تجاه "نزاع الصحراء" بسبب اللجوء
في الحالة الإسبانية كانت "أزمة اللجوء" سبباً في تغيير رئيس الوزراء بيدرو سانشيز موقف بلاده من "ملف الصحراء"، المتنازع عليها بين المغرب وجبهة البوليساريو المطالبة باستقلال الإقليم، والمدعومة من الجزائر.
وأثار استقبال الحكومة الإسبانية في منتصف عام 2021 لزعيم البوليساريو إبراهيم غالي للعلاج غضب الحكومة المغربية.
وبادرت السلطات المغربية بتخفيف التعاون في مجال مراقبة الحدود مع إسبانيا، وهو الإجراء الذي نتج عنه عبور نحو 10 آلاف مهاجر إلى جيب سبتة الإسباني في ظرف قياسيّ.
وفي عام 2022 أجرى رئيس الوزراء الإسباني تغييراً جذرياً في سياسة مدريد، معلناً دعم إسبانيا مقترح المغرب بمنح الحكم الذاتي للصحراء، وهو ما وضع حداً لأزمة دبلوماسية بين المغرب وإسبانيا.
وأدى هذا التغيير في موقف مدريد إلى توقف تدفقَّات المهاجرين غير النظاميين من دول جنوب الصحراء إلى إسبانيا.
اليونان.. اتهامات بالترحيل غير القانوني
منذ عام 2015 أصبحت اليونان جبهة الاتحاد الأوروبي الأولى على صعيد "أزمة اللجوء"، ما جعل هذه الأزمة تتصدر ملفات الحكومة اليونانية والرأي العام.
ومنذ ذلك الحين تتهم منظمات حقوق الإنسان والسلطات الأوروبية، لا سيّما البرلمان والمفوضية، حكومة المحافظ كيرياكوس ميتسوتاكيس بترحيل اللاجئين بطرق غير شرعيّة.
وتردّ الحكومة اليونانية على هذه الاتهامات قائلة إنّ الإجراءات التي تقوم بها قاسية لكنها ضرورية، فيما تنفي تحقيقات مستقلة هذه المزاعم.
وتؤكد المنظمات غير الحكومية أن السلطات اليونانية ترحِّل طالبي اللجوء من دون منحهم الحق في إثبات أحقيتهم في اللجوء إلى الاتحاد الأوروبي.
وفي صيف عام 2023 شهدت اليونان كارثة غرق أحد القوارب المحملة باللاجئين، ما أدى إلى مقتل المئات منهم، وإلى وضع "أزمة اللجوء" في صدارة القضايا التي تشغل بال أوروبا.
ووفق منظمتَي العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش فإن إخفاقات السلطات اليونانية كانت سبباً في غرق القارب.
هولندا.. انهيار الحكومة بسبب سياسة اللجوء
في هولندا احتدّ النقاش في حكومة رئيس الوزراء مارك روته حول قضية اللجوء، ما كان سبباً في انهيارها في يوليو/تموز الماضي.
وفي الانتخابات التي أُجريت نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تمكن اليميني المتطرف خيرت فيلدرز من تحقيق فوز مفاجئ وحصل على 37 مقعداً برلمانياً من أصل 150 مقعداً.
وبنى فيلدرز خطاب حملته الانتخابية على معاداة المهاجرين والإسلام، وتعهّد ليلة إعلان فوزه بوقف "طوفان" اللاجئين إلى أوروبا.
كما باشر محادثات لتأسيس حكومة يمين-وسط، يصرّ جميع المشاركين فيها على ضرورة مراقبة موجات اللجوء بشكل أفضل.
وتواجه محادثات تشكيل الحكومة الهولندية صعوبات كبيرة، ويُتوقّع أن تستمر لأشهر عدة، لكن غالبية الناخبين الهولنديين فوَّضت ضمنياً فيلدرز لتشكيلها، ما يعني -إذا نجح في مسعى فيلدز- جنوح هولندا نحو سياسة متشددة تجاه المهاجرين واللاجئين.