مع اقتراب موسم البرد، كانت السلطات الإيرانية تفاخرت بثقة أن الدول الأوروبية المنزعجة من تقلص إمدادات الغاز الطبيعي الروسي من الأسواق العالمية، ستلجأ إليها للحصول على الغاز منخفض الثمن، وأن الحرمان الذي تشعر به الدول الأوروبية سيعطي إيران اليد العليا لوضع شروطها مسبقة من أجل إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA).
لوحت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة وعديد من المعلقين بـ "شتاء قاسٍ" كلما اتضح أن الأوروبيين يحتاجون إلى مزيد من موردي الغاز. نجت أوروبا من فصل الشتاء من خلال العمل على موردين بديلين، بما في ذلك الجزائر وأذربيجان والنرويج وهولندا، ولم تشعر قط بأنها مضطرة إلى تجاوز أو تخفيف العقوبات لشراء الغاز الإيراني.
في الحقيقة، شهدت إيران واحداً من أكثر فصول الشتاء قسوة في الآونة الأخيرة، تميز بانقطاعات كبيرة وتعطيل إمدادات الغاز للمنازل. على وسائل التواصل الاجتماعي، سخر الإيرانيون وهم يشعرون باليأس من أن الشتاء القاسي الذي كان من المفترض أن يحل بأوروبا حل ببلدهم بدلاً من ذلك.
إن أزمة الطاقة التي تواجهها إيران مؤشر على إخفاق أوسع نطاقاً، يشير إليه عديد من المحللين على أنه سوء إدارة وفشل متكرر في السياسة الخارجية.
جرى وضع حواجز بين الشعب الإيراني والعالم الخارجي، هذا فضلاً عن أن المؤسسات التي تمارس السلطة ليست خاضعة للمساءلة، لذلك يجرى اتخاذ القرارات السيئة التي تؤثر في ملايين الأشخاص دون رقابة. إن خسائر هذه القرارات أعلى في قطاع الطاقة وبخاصة بسبب آثارها الجانبية البيئية.
قال مهدي قدسي، الخبير الاقتصادي في معهد فيينا للدراسات الاقتصادية الدولية: "طالما ظل النظام السياسي في السلطة، فإننا نتوقع تدهوراً لا يدعو إلى الاستثمار ولكنه يشجع على هروب رؤوس الأموال".
ويضيف: "البنية التحتية المتهدمة تشبه دولة مزقتها الحرب أو اقتصاد أقل نمواً، ولا يمكنها توفير الخدمات اللازمة للمواطنين. وفقاً للأرقام الجديدة الخاصة بنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، لم يعد من الممكن اعتبار إيران دولة ذات دخل متوسط، بل بلداً منخفض الدخل".
في ديسمبر/كانون الأول 2022، أكد وزير البترول أن إيران يجب أن تجتذب استثمارات بقيمة 240 مليار دولار في قطاع النفط والغاز حتى لا تصبح مستورداً رسمياً للطاقة في السنوات الثماني المقبلة.
إن الحالة الحالية للعلاقات الخارجية الإيرانية، التي تتميز بالتوترات مع عديد من الدول المجاورة واستمرار الأعمال العدائية مع الغرب، لا تعد بأن استثمارات كبيرة يمكن أن تأتي إلى البلاد، على الأقل من الدائنين والشركات الدولية الموثوقة.
توجد حاجة كبيرة إلى التكنولوجيا والاستثمارات والقدرات التقنية، وكلها غير متوفرة. السبيل الوحيد للخروج من هذا هو تغيير وجهات النظر السياسية والاستراتيجية الحالية للنظام، والانفتاح على الغرب والعالم العربي، إذ يمكن لكليهما توفير كل ما هو مطلوب، حسب سيريل ويدرشوفن، خبير سوق الطاقة ومؤسس شركة Verocy للاستشارات في هولندا، لـ TRT World.
"الافتقار إلى البصيرة الاقتصادية"
تمتلك إيران ثاني أكبر احتياطيات مؤكدة من الغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا. يبلغ حجمها 32 تريليون متر مكعب، وتشكل 16 في المئة من حصة العالم من الغاز الطبيعي. لكنها مع ذلك لا تندرج ضمن أكبر 10 مصدرين. فبعد سنوات من العقوبات الصارمة، كان جذب العملاء في أوروبا وآسيا مهمة شاقة.
كونها دولة غنية بالموارد بشكل كبير، فمن المستغرب أن تكون إيران لا تزال تعتمد بشكل كبير على الواردات لتلبية احتياجات الاستهلاك المحلي جزءاً من عقد توريد مدته 25 عاماً مع تركمانستان جرى توقيعه في عام 1997، تستورد إيران 5-7 مليار متر مكعب سنوياً من غاز تركمانستان عبر خطوط الأنابيب. في عام 2016، خفضت شركة Turkmengaz المملوكة للدولة الواردات ووقفتها تماماً في عام 2017، مشيرة إلى فشل طهران في تسوية مستحقاتها. لم تتمكن إيران من تعويض تركمانستان بسبب العقوبات الدولية التي كانت سارية حتى يناير 2016 عند تنفيذ الاتفاق النووي.
في نوفمبر 2019، وقعت إيران صفقة تبادل غاز جديدة مع تركمانستان وأذربيجان، لكن تركمانستان وقفت مرة أخرى الصادرات في وقت سابق من شهر يناير/كانون الثاني بسبب "أسباب فنية ناجمة عن الصقيع" والتي عززت أيضاً الطلب المحلي.
عانت إيران، غير المستعدة للاستجابة للطوارئ، من أزمة انقطاع الكهرباء على نطاق واسع، وفي القرى النائية والمدن الأصغر حجماً، بدأ الناس في البحث عن أسطوانات غاز البروبان وسخانات الكيروسين لتدفئة أنفسهم.
في محاولة لدرء مزيد من الاضطراب في توفير الغاز للأسر الإيرانية، قررت إدارة الرئيس إبراهيم رئيسي قطع الإمدادات إلى الصناعات والمصنعين. قال العاملون في الصناعة إن إمدادات الغاز لما يقرب من 50 مصنعاً للأسمنت وقفت، وانخفض الاستهلاك اليومي لمصانع الصلب في جميع أنحاء البلاد إلى 15 مليون متر مكعب من متوسط 40 مليون متر مكعب، مما أدى إلى انخفاض الإنتاج بمقدار 2 مليون طن.
كما أمرت السلطات بإغلاق مئات المدارس والبنوك والمكاتب الحكومية للتخفيف من حدة الأزمة، ومع ذلك وردت أنباء أن خمس مقاطعات على الأقل على وشك الانفصال التام عن سلسلة توريد الغاز. في الأثناء، ناشد جواد أوجي، وزير البترول الإيراني، الناس في 11 يناير ارتداء ملابس دافئة عندما يكونون في المنزل.
لقد شعرت إيران بوطأة ندرة الغاز قبل بداية فصل الشتاء. مع العقوبات التي تمنع الاستثمار في مصافي التكرير الصلبة في البلاد، كان إنتاج الغاز الطبيعي ضئيلاً، في حين جرى إصدار تعليمات لمحطات الطاقة لاستخدام المازوت، وهو زيت الوقود الثقيل منخفض الجودة، مصدراً لطاقة التشغيل. يحذر الخبراء منذ فترة طويلة من الآثار البيئية الوخيمة للاستخدام واسع النطاق للمازوت.
يحذر علي دادباي، الأستاذ المشارك في العلوم المالية بجامعة دالاس، من أن "عواقب هذه الاستراتيجية متعددة الجوانب وطويلة الأمد، يوجد عديد من العواقب، من زيادة عدم ثقة الجمهور بالحكومة إلى الأضرار البيئية. لا تعتبر الجمهورية الإسلامية دولة فاشلة بعد، لكنها أصبحت دولة تفشل في الحكم وتصحيح أخطائها". وأضاف: "أشك في أننا سنعرف المدى الحقيقي للضرر اللاحق بالبيئة لبعض الوقت. ومع ذلك، شيء واحد مؤكد. أجيال من الإيرانيين ستدفع ثمن افتقار النظام إلى البصيرة الاقتصادية وعدم الكفاءة ".
يجادل آخرون بأن تداعيات العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران يمكن أن تكون معقدة ويصعب حلها، وأنه ما لم تتمكن الجمهورية الإسلامية من التوصل إلى اتفاق مع المجتمع الدولي لرفع العقوبات، فإن صناعاتها الأساسية، بما في ذلك النفط والغاز، ستبقى تعاني من نقص التمويل وعدم مواكبة التطورات بسبب نقص الاستثمار الأجنبي.
لن تستثمر الشركات في إيران، ومن المرجح أن يستمر هذا لسنوات. نعم، سنوات، إذ لو رفعت الولايات المتحدة العقوبات اليوم، فإن الشركات لا تثق بأن الولايات المتحدة لن تعيد فرضها مرة أخرى بعد أن استثمرت الشركات مليارات الدولارات" حسب حسين العسكري، الأستاذ الفخري للأعمال الدولية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن، في معرض حديثه مع TRT World.
وأشار العسكري إلى أن الشركات الكبرى مثل Bechtel التي طورت الحقل الذي تشترك فيه إيران مع قطر مثل "بارس" و"نورث دوم"، لن تلتزم العمل في إيران بسبب العقوبات. ونتيجة لذلك، فإن مستويات تطوير وتصدير الغاز الإيراني ليست في المستوى الذي كان متوقعاً لها.
وختم العسكري بالقول: "أحدثت العقوبات ضرراً كبيراً في إيران. بعد الحروب تعود الأمور إلى سابق عهدها ولكن هذا لا يحدث بعد هذه العقوبات الأمريكية".