في سياق الخطة لإعادة هيكلة المجتمع الهندي، لا تزال حكومة حزب "بهاراتيا جاناتا" القومي الهندوسي الحاكم تضطهد المسلمين بدءاً من محاولة محو الوجود الإسلامي في التاريخ والسينما الهندية (بوليوود) وتغيير التركيبة السكانية، وصولاً إلى حذف تاريخ الحكام المسلمين من الكتب المدرسية.
دفع هذا الإجراء مجموعة من 250 مؤرخاً هندياً للاحتجاج على إعادة كتابة كتب التاريخ المدرسية في الهند، لتتوافق مع ما يصفونه بالتحيز الأيديولوجي للحزب الحاكم، بحسب صحيفة "التايمز".
وكان المجلس الوطني للبحوث التربوية والتدريب (إن سي إي آر تي)، التابع لوزارة التعليم بالهند قد نشر مجموعة جديدة من الكتب في إطار ما يشكل مراجعة دورية للمناهج المدرسية تحدث كل بضعة سنوات.
وقد أثارت الواقعة حفيظة النقاد خاصة وأنها أغفلت حقبة تاريخية مهمة في تاريخ الهند، في فترة إدارة الحكام المغول. لكن المجلس الوطني رد على ذلك بقوله: "كانت توجد بعض التغييرات الأخرى مثل إزالة بعض الإشارات إلى اغتيال المهاتما غاندي، وأعمال الشغب عام 2002 في ولاية غوجارات".
يؤكد هذا الرد اتهامات المراقبين والمحللين لحكومة الهند بإعادة كتابة التاريخ، ذلك أنها تعمدت إزالة الإشارات إلى معارضة "المهاتما غاندي" للقومية الهندوسية، وحذفت وقائع أعمال الشغب الدينية المثيرة للجدل التي اتُّهم رئيس الوزراء "ناريندرا مودي" بالتواطؤ فيها وتضمنت هجمات وحشية على عائلات مسلمة ومقتل أكثر من 1000 شخص معظمهم من المسلمين.
كما حظرت الحكومة مؤخراً فيلماً وثائقياً من قناة BBC تكشف دور "مودي" في أعمال الشغب، التي اختفت الإشارة إليها في الكتب المدرسية بعد التعديلات الأخيرة.
أتت هذه التغييرات جزءاً من عملية "ترشيد المنهج" وفق ما اصطلح عليه المجلس المذكور، وأُعلنت في العام الماضي، على ألا تؤثر في المعرفة التي يحصل عليها الطلاب، بدعوى تخفيف الضغط عنهم بعد اتباع أساليب دراسية مختلفة إثر جائحة كورونا.
لكن التبرير الذي أطلقوه لم يقنع المنتقدين الذين رأوا في ذلك محاولة لطمس أجزاء ذات أهمية في تاريخ الدولة الهندية، وأن تلك الإغفالات المقلقة قد تسبب مشكلة في استيعاب الأطفال لتاريخ بلادهم، متهمين بذلك المجلس الوطني للبحوث التربوية والتدريب بتعمد طمس دلالات تاريخية على وجود الحكام المغول وذلك استجابة لضغط الجماعات اليمينية الهندوسية.
ونُقل عن "أودري تروشكي" الأستاذة في تاريخ جنوب آسيا في جامعة روتجرز: "لا يمكنك فهم تاريخ الهند الحديثة بلا ذكرٍ لفترة حكم المغول، وما حدث يجعل الهنود جهلاء بأصلهم وتاريخهم، وأن محو المغول من الكتب المدرسية لا يمحوهم من تاريخ الهند".
يرد المؤيديون للتعديلات بأن المقررات القديمة بالغت في منح الحكام المسلمين أهمية كبيرة، ويقول "ماخان لال" المؤرخ والأكاديمي الذي كتب عديداً من الفصول للكتب المدرسية: "كانت فترة حكم المغول من أكثر الفترات دموية في التاريخ الهندي"، موضحاً أنه من الممكن الاستعاضة عن ذلك التاريخ الحافل بالمجازر بتاريخ السلالات الهندية التي حكمت جنوب الهند مثل إمبراطورية فيجاي ناجار أو تشولا أو الباندا.
وفي هذا الصدد يقول البروفيسور هلال أحمد لـbbc ، الذي يعمل في مجال الإسلام السياسي ويدرّس في مركز دراسات تنمية المجتمعات: "في وقت يشهد انقساماً، يتعلم الطلاب عن تاريخ أمتنا بإزالة ما هو غير مريح أو يُنظر إليه على أنه غير مريح، نحن بذلك لا نشجعهم على التفكير بشكل نقدي".
ينظر القوميون المتطرفون إلى فترة حكم المغول للهند أنها كانت فترة غزو اعتمدت على النهب والسلب وإفساد حكم الهندوس على الأراضي الهندية. وكان الفصل الذي أزيل حديثاً في الكتب المدرسية للصف الثاني عشر، مكوناً من 30 صفحة تتناول أعمال الممالك المغولية التي وُثٍّقت معظمها في حسابات تاريخية مطولة بتكليف من أباطرة المغول، ويوضح كيف قدمت سجلات المغول هذه "الإمبراطورية على أنها تضم عديداً من الجماعات العرقية والدينية المختلفة مثل الهندوس والجاين والزرادشتيين والمسلمين".
أعاد الجدل الدائر صور القمع الرسمي والمجتمعي للمسلمين بأشكال مختلفة امتدت إلى تغيير التاريخ وأدلجة عقول الأطفال في المدارس، وهو أمر أنكره مدير المجلس الوطني للبحوث التربوية والتدريب في الهند "دينيش سكلاني" واصفاً الجدل حول تعديل المنهج بأنه "غير ضروري"، وموضحاً أن جزءاً من تاريخ المغول لا يزال يدرَّس لأطفال المدارس.
ودعا البروفيسور هلال أحمد الذي يعمل في مجال الإسلام السياسي والباحثين العاملين معه في المجال إلى مراجعة الكتب المدرسية أيضاً، لتحقيق التوازن الصحيح بين المحتوى ونتائج التعليم.
وقال: "إن التاريخ لا ينتهي أبداً، وهو غير مكتمل ولن يُتوصل إلى حلول بشأنه إلى الأبد، ولهذا السبب يجب مراجعة كتب التاريخ المدرسية باستمرار"، لكنه حذر من أن يأتي على حساب السعي الأكبر للمعرفة.
ويرى البروفسور أحمد والدارسون أن حالة الحذف تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ويطرح قضايا تربوية، لأنها تحجب المعلومات بغض النظر عن التناقضات والفجوات التي يمكن أن تظهر جراء ذلك، كما أن اقتطاع أي حدث تاريخي من سياقه قد يقدمه للطلاب مشوهاً.
يعتقد اليمينيون أن ذلك لا يشكل أزمة بالمعنى الدقيق وأن المعارضين لتلك التعديلات يبالغون في وصفها، وأنهم أسقطوا من التاريخ فترة دموية، لأن وحشية المغول شكلت صورة خاطئة عن ثقافة وقيم الهند. ووفقاً لما قاله "ماخان لال": "فإن هذه التشوهات المزعومة أدت إلى عقود من العار حول الثقافة والقيم الهندية القديمة، لكن الهنود الآن يعيدون النظر في ماضيهم القديم مرة أخرى".
أُجريت التعديلات أيضاً على الأجزاء التي تذكر كراهية "غاندي" بين القوميين الهندوس، ومحاولات اغتيالهم له في مرات عدة، إلى أن قُتل غاندي على يد القومي الهندوسي "ناتورام جودسي" في عام 1948. ولا يزال القوميون يبغضون غاندي بسبب آرائه حول الوحدة بين الهندوس والمسلمين، ومنذ وصول حزب بهاراتيا جاناتا إلى السلطة، تضاعف تبجيل قاتله بين صفوف القوميين المتشددين.
يعتقد المؤرخون من جانبهم أن ذلك التعديل يوحي بوجود منافسة يحاول اليمينيون الفوز فيها بتقديم صورة لامعة لحكام الهندوس، مقارنة بحكام المغول، وأنها تتعلق بأسباب عاطفية غير موضوعية وقد تؤثر في الوعي العام.
يقول المؤرخ والمؤلف مانو بيلاي: "يوجد هذا الضغط على التاريخ الهندوسي للهند، إذ تُجمع الشخصيات الهندوسية معاً عن قصد في جهة، والمغول والأشرار في جهة أخرى" مستكملاً، أن الوحشية لم تكن صفة حصرية للمغول، فالملوك بشكل عام كانوا أشخاصاً عنيفين، وكان العنف نتيجة طبيعية للسلطة في القرن التاسع عشر.
يفند المؤرخ الغاية من وراء الإجراء بقوله: "ما يحدث الآن هو إشارة ضمنية بأن المغول كانوا عنيفين بشكل غريب، كما يلمح أيضاً إلى أن المغول كانوا يرون أنفسهم في الأساس كمسلمين مصممين على تعذيب الهندوس".
ولا يعد هذا الإجراء جديداً من نوعه، فمنذ وصول حزب "بهاراتيا جاناتا" إلى السلطة في عام 2014، أُجريت تعديلات مختلفة على الكتب المدرسية.
واتهمت عديد من الجهات الهند بالابتعاد عن النهج العلماني بسبب اتباع الحزب أجندة قومية هندوسية، والتمهيد لإعادة كتابة تاريخ البلاد والابتعاد عن "عقلية العبيد" من الظالمين الاستعماريين.
وقال وزير الشؤون الداخلية "أميت شاه" في خطاب ألقاه عام 2019: "من مسؤوليتنا كتابة تاريخنا".
وقال المتحدث الوطني باسم حزب "بهاراتيا جاناتا"، "جوبال كريشنا أغاروال": "إنه لم يكن إعادة كتابة التاريخ بل طريقة لإعادة التوازن إلى النهج المتحيز لبعض المؤرخين".
ويرى مؤرخون وخبراء أن الغاية من تلك الإجراءات محو أو تقليل إسهامات المسلمين في المجتمع الهندي مع تمجيد الهندوس في الوقت نفسه، ويؤكدون أن التغييرات في الكتب المدرسية تنسجم مع التوجه الذي يقوده حزب "بهاراتيا جاناتا" في السياسة الهندية، بزعمه أن الهند ذات دين واحد، هو الهندوسية فقط والمسلمون أجانب أو مستعمرون".
حسب مجلة "تايم" الأمريكية، يشعر المؤرخون بالقلق من تأثير حذف التاريخ الإسلامي للهند من المنهج، على الطلاب الذين سيستخدمون هذه الكتب المدرسية المعدلة في المدرسة.
وحسب المؤرخين، فإن حكم المغول المسلمين كان فترة زمنية حاسمة في تطور الهند قبل أن تحتلها بريطانيا، واستمر تأثيرهم في الثقافة الهندية بعدما أصبحت البلاد مستقلة، وأن بصمات الحكام المسلمين موجودة في الهند بشكل كبير ولا تقتصر على ما كُتب في المناهج المدرسية فحسب.
فكثير من المظاهر الأخرى لا يمكن محوه مثل المزار السياحي تاج محل الذي بناه المغول، والأطعمة الهندية الحالية مثل "البرياني"و التوابل اليومية الشائعة. بجانب اللباس التقليدي، مثل بيجامة الكورتا الرجالية وشلوار كاميز النسائي الذي ظهر خلال الدولة الإسلامية في ظل حكم المغول، ورقصة الكاتاك والموسيقى الكلاسيكية الهندية، وفق مجلة تايم.
ويقول المؤرخ الهندي "أديتيا موخيرجي"، لمجلة "تايم" أنه عندما "يجري محو فئة معينة من التاريخ، وإضفاء الشيطانية على مجتمع معين على مدى فترة طويلة من الزمن، فهذه علامات على حدوث إبادة جماعية وشيكة".
وقال رئيس حزب المؤتمر المعارض "ماليكارجون خارج" لصحيفة "التايمز" البريطانية: "يمكنك تغيير الحقيقة في الكتب، لكن لا يمكنك تغيير تاريخ البلاد".