في خطوة وصفها المراقبون بالاستراتيجية، وقّعت قطر والصين اتفاقية غاز طبيعي مسال لمدة 27 عاماً، وهي الأطول من نوعها في تاريخ صفقات الغاز بسوق الطاقة في العالم، ما فتح الباب للبحث عن دلالات الانفتاح الصيني ليس فقط نحو الدوحة بل للخليج العربي والشرق الأوسط كاملاً.
وبموجب الاتفاق التاريخي ستزود قطر الصين بـ4 ملايين طن من الغاز سنوياً من مشروع توسعة حقل الشمال الشرقي، بما يتوافق مع قيود الكربون الذي تسعى إليه كبريات الدول في استراتيجياتها للحد من الانبعاثات.
وبذات الصدد، وفي القمة الصينية-العربية التي عُقدت في ديسمبر/كانون الأول الماضي في السعودية، والتي وُصفت بأنها خطوة لإعادة تشكيل عالم متعدد الأقطاب، وُقّعت جملة اتفاقات تتعلق بالطاقة الخضراء والأمن والتكنولوجيا، وهو ما وصفه محللون بمسمار جديد في نعش الهيمنة الأمريكية على العالم، وخطوة جديدة نحو التخلّي عن أحادية القطب للدولار.
تعزيز مكانة الصين في الشرق الأوسط
وتعليقاً على ذلك، يقول الخبير الدولي في مجال النفط والطاقة هاشم عقل، إن الصين وفقاً لسياستها الجديدة، سوف تتوسع في خططها الطاقيّة في المنطقة العربية ودول أفريقيا.
ويضيف عقل لـTRT عربي: "كما ستعمل الصين على توفير الدعم المالي لبعض الدول متبنية سياسات أكثر ليونة، على خلاف أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يؤسس لعصر جديد في العالم يغير كل قواعد سوق الطاقة ويزيل أحادية التحكم الأمريكي".
كما يشير إلى انضمام السعودية مؤخراً ومساعي دخول إيران وغيرها من الدول إلى منظمة بريكس، التي تشكّل نحو 40% من مساحة العالم وتساهم في الاقتصاد العالمي بنسبة 31.5%.
وهو ما يعني أن عصر هيمنة الولايات المتحدة على سوق الطاقة بات في مهب الريح، والعالم على أبواب عصر جديد وتحوّل هام لم يشهد له مثيلاً، حسب قول عقل.
ويلفت عقل، إلى أن السعودية اليوم هي اللاعب الأبرز داخل منظمة أوبك، ولا تخضع لأي ضغوط بشأن إنتاج النفط في العالم، إذ بدأت الولايات المتحدة فقدان السيطرة على سوق الطاقة عندما فشل الرئيس الأمريكي جو بايدن في إقناع السعودية لزيادة الإنتاج خلال الزيارة الاخيرة التي أجراها في أغسطس/آب الماضي للسعودية.
وكان قرار أوبك+ خفض الإنتاج الطوعي للمحافظة على استقرار الأسعار عند 75 دولاراً.
ويتابع حديثه بالقول، أن الصين تدخل السوق العربية وبخاصة الخليجية بقوة اليوم في السيارات الكهربائية، وتصدّر سنويّاً ملايين السيارات التي تتوافق مع متطلبات التغيير المناخي كونها صديقة للبيئة، وهو ما يعزز مكانة الصين في الشرق الأوسط بشكل كبير.
ويختم عقل أن التوجه الصيني اليوم يسير نحو التمدد في كل العالم من خلال تقديم القروض والمشاريع التكنولوجية الكبرى في الطاقة وأهمّها مشاريع اصطياد الكربون.
"خطوة إيجابية مهمة"
من ناحيته الباحث الاكاديمي والمحلل الاقتصادي الأستاذ الدكتور محمد الهدب قال إن الصين تدرك أن الطلب على الغاز سيزيد في السنوات القادمة، خاصة مع طول أمد الازمة الروسية-الاوكرانية، وهذا يجعل بكين تحرص على التحوّط لأي تقلبات في الأسعار بالمستقبل.
ويضيف الهدب لـTRT عربي أن "الاتفاق الصيني-القطري والاتفاقات التي سبقته مع دول الخليج خصوصاً السعودية يأتي في إطار حرص الصين على ضمان ديمومة صناعاتها التي تعمد على الغاز بشكل كبير" مشيراً إلى أنها "خطوة إيجابية مهمة لدول الخليج العربي في الحصول على مشتري بكميات كبيرة ولفترات طويلة".
ويلفت إلى أن الصين هي أكبر مستهلك للطاقة في العالم، مضيفاً أن "التغيرات السياسية التي تحدث تجعل سوق الطاقة متقلباً وغير مستقر".
ويستطرد الهدب "ولكي تضمن الصين ديمومتها بمعزل عن الولايات المتحدة التي بدأت فعلا فقدان السيطرة على سوق الطاقة، ما كان من الأولى إلا التوجه نحو المنطقة العربية وعقد الاتفاقات طويلة الأمد".
ويعرج المحلل الاقتصادي الى أن منظمة بريكس التي تمثّل قوة اقتصادية ومجموعة بديلة عن مجموعة السبع، هدفها تخفيف الآثار التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية برفع الفائدة على القروض وتأثر الدول النامية.
وينوّه إلى أن بريكس عملت على إنشاء بنك خاص بها للعب دور مشابه للبنك الدولي يخلق توازناً في العالم.
ويؤكّد الهدب أن اتفاقية الغاز القطري الصيني هي "خطوة بالاتجاه الصحيح ويجب على الدول العربية أن تحذو حذوها لما لها من آثار إيجابية اقتصادياً وسياسياً في اقتصادات الدول".
"ليست الاتفاقية الأولى"
من جانبه، يقول الخبير والباحث الاستراتيجي عمار وجدي "إن الاتفاقية بين الصين وقطر ليست الأولى عربياً إذ سبقتها مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تزامنت في سنتها العاشرة مع هذا الاتفاق الهامّ".
ويوضّح وجدي في حديثه مع TRT عربي، أن عديداً من دول الشرق الأوسط شاركت بنشاط مع هذه المبادرة وزادت رقعة التعاون الصيني العربي في مجالات الاقتصاد والتجارة والبنية التحتية والعلوم الإنسانية وغيرها يمضي على قدم وساق.
ويستذكر الدور الصيني الهام في فتح الخطوط بين إيران والسعودية واستئناف العلاقات بينهما، الأمر الذي عزز ثقة الشرق الأوسط عامة والخليج خاصة بالصين، حسب قول وجدي.
ولم يستبعد الخبير الاستراتيجي أن توسع بكين العلاقات مع دول المنطقة، وتعزز وجودها في مسار مشاريع البنية التحتية ودعم الدول النامية منها، وهو ما اعتبره وجدي أمراً لا تفضّله الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتّحاد الأوروبي.
ويشير الى أن الصين وقطبها الجديد، تعمل بمسار ثابت على إعادة هيكلة القوى في العالم ونسف فكرة القطب الواحد، عبر إعادة تشكيل السوق وخلق حالة توازن في حالة العرض والطلب والانتظام بسياسة السوق الحر الذي ابتعدت عنه الولايات المتحدة وأوروبا وأصبحت تتحكم بمصير العالم الاقتصادي.
واختتم وجدي حديثه قائلاً: "على الدول العربية استغلال هذا الانفتاح والتداخل معها بشكل ايجابي وتنفيذ المشاريع الاستراتيجية الكبرى، لتوفير فرص العمل ورفع معدلات النموّ وتحقيق اقتصاد متنامٍ ناجح يسهم في تحسين البنية الاقتصادية، إلى جانب ضرورة التخلّص من التبعية الأمريكية والابتعاد عن هيمنة الدولار".