خوفاً من حدوث تباطؤ اقتصادي بسبب الصراع في أوكرانيا، وتفاقم التوترات بين روسيا والغرب، يتواصل كبار قادة أوروبا مع الصين، مما يشير إلى صدع في التوجه الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد العملاق الآسيوي الصاعد.
بعد زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز للصين في وقت سابق من هذا الشهر، سيتوجه رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي تشارلز ميشيل أيضاً إلى بكين للقاء الزعيم القوي للبلاد شي جين بينغ في الأول من ديسمبر/كانون الأول، وفقاً لمصادر دبلوماسية أوروبية.
انضم عديد من الدول الأوروبية، من ألمانيا إلى هولندا، بنوع من التردد إلى التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة ضد روسيا بشأن النزاع في أوكرانيا.
لكن مع استمرار الهجوم الروسي، تشعر بعض العواصم مثل برلين وأمستردام بضغط اقتصادي متزايد للوصول إلى الصين لتخفيف ضغوط مواردها المالية.
يعتقد الخبراء أن زيارة ميشيل تُظهِر انقساماً محتملاً في المعسكر الغربي لمجابهة الصين بطريقة موحدة. وتأتي زيارة ميشيل بعد اجتماع الرئيس الأمريكي جو بايدن مع شي الذي استمر ثلاث ساعات في بالي بإندونيسيا خلال قمة مجموعة العشرين.
تريد واشنطن بالتأكيد عزل بكين، وتتوقع أن تنضم أوروبا إلى تحالف واشنطن المناهض للصين. لكن كما نشهد بوضوح في الصراع في أوكرانيا، فقد دفعت أوروبا الثمن الباهظ لسياسة واشنطن تجاه روسيا، كما يقول بولنت جوفين، أستاذ العلوم السياسية الألماني من أصول تركية.
وفقاً لجوفين، لا تواجه الولايات المتحدة الغنية بالطاقة أي نقص في الغاز أو النفط على عكس شركائها الأوروبيين الذين يكافحون لتلبية متطلباتهم، مما يؤدي إلى استياء الرأي العام.
رفعت هولندا بالفعل بعض العقوبات عن روسيا لتخفيف الضغط على اقتصادها وأشارت إلى أنها ستتواصل مع الصين أيضاً.
وقالت وزيرة التجارة الخارجية الهولندية ليسجي شرينيماخر في مقابلة هذا الشهر، في إشارة إلى ضوابط واشنطن على الصادرات إلى الصين: "لن تتبع هولندا الإجراءات الأمريكية تماماً".
كما أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى أنه سيزور الصين في بداية العام الجديد في محاولة لإعادة تقويم العلاقات بين باريس وبكين، مما يظهر شرخاً آخر في المعسكر الغربي ضد بكين.
وقال ماكرون، في إشارة إلى الصراع في أوكرانيا: "أنا مقتنع بأن الصين يمكن أن تلعب، دور وساطة أكثر أهمية في الأشهر المقبلة، لمنع عودة أقوى للهجمات البرية في أوكرانيا أوائل فبراير/شباط". يعتبر بيان ماكرون في هذا السياق مؤشر آخر على تزايد الخلافات حول سياسة الغرب تجاه الصين.
الخاسر الأكبر
من بين أمور أخرى، يبدو أن ألمانيا هي الخاسر الأكبر في المعسكر الغربي. مع انقطاع إمدادات الغاز من روسيا، أكبر مورد لألمانيا قبل حرب أوكرانيا، تواجه برلين أزمة طاقة غير مسبوقة أثرت بشكل كبير على أكبر اقتصاد في أوروبا، مما دفع البلاد إلى حافة انتكاسة مالية.
ووفقاً للخبراء، ربما يكون الاقتصاد الألماني دخل بالفعل في فترة ركود، وتشير بعض المؤشرات إلى أنه سيستمر في الانكماش أكثر في العام المقبل.
ونتيجة لذلك، فإن ألمانيا، التي تأثرت بارتفاع أسعار الطاقة، تسعى بشدة ليس فقط لتأمين إمدادات الغاز للتغلب على أشهر الشتاء القاسية، ولكن أيضاً لفتح طرق تجارية بديلة مع اقتصادات أكبر مثل الصين لزيادة مواردها المالية.
تحت ضغط اقتصادي هائل من هذا القبيل، أدت إلى احتجاجات مناهضة للحكومة، احتاج المستشار الألماني شولتز إلى زيارة الصين ولقاء شي، الذي حظي بولاية ثالثة غير مسبوقة زعيماً قوياً للحزب الشيوعي الصيني. وهي الزيارة التي سخر منها كثيرون في الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية الأخرى.
قال جوفين لـTRT World، في إشارة إلى حاجة شولتز إلى زيارة الصين بوفد كبير: "تعتقد ألمانيا أن سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين، والتي تشبه سياسة واشنطن تجاه روسيا، يمكن أن تكلف أوروبا غالياً، لا سيما من الناحية الاقتصادية". وضم فريق شولتز كبار قادة الأعمال من BASF وVolkswagen وBayer الذين استثمروا بشكل كبير في السوق الصينية.
ونُقل عن المستشار قوله قبل زيارته لبكين، "إذا كانت الصين تتغير، فيجب أن يتغير نهجنا تجاه الصين"، في إشارة إلى معارضة ألمانيا نهج الولايات المتحدة تجاه ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
في سبتمبر/أيلول وفي إشارة إلى مشكلة إمدادات الغاز في ألمانيا، كشف شولتز النقاب عن حزمة كبيرة لمساعدة الأسر الألمانية من أجل "تجاوز هذا الشتاء". وقال جوفين إن المستشار بريد من خلال زيارته الأخيرة للصين الحفاظ على العلاقات التجارية الألمانية مع الصين سليمة لإنقاذ برلين من الانكماش الاقتصادي.
على الرغم من جهوده، يمكن أن تسوء الأمور بالنسبة إلى ألمانيا، كما يقول الخبراء، إذ حذر كبار اللاعبين الصناعيين في البلاد مؤخراً برلين من أن الإجراءات المناهضة للصين ستضر بشدة بالدولة الأوروبية.
ومؤشراً على الصعوبات المتزايدة التي تواجهها ألمانيا، واجهت زيارة شولتز للصين، والتي استمرت 11 ساعة فقط، انتقادات كثيرة داخل ألمانيا وخارجها.
ويعتبر شولتز أول زعيم غربي يزور بكين منذ اندلاع الجائحة العالمية. ووصفها راينهارد بوتيكوفر، عضو حزب الخضر الألماني، وهو شريك في ائتلاف شولتز بأنها "الزيارة الأكثر إثارة للجدل في البلاد على مدار الخمسين عاماً الماضية".
كما انتقدت بعض الأحزاب السياسية المعارضة في برلين علناً المستشار، واصفة زيارته إلى الرئيس الصيني شي بأنها استرضاء بعد فوزه بقيادة الحزب الشيوعي الصيني من جديد. من ناحية أخرى، عرض ماكرون، أحد الأصوات البارزة في الاتحاد الأوروبي، على شولتز الذهاب إلى الصين معاً ليُظهر لبكين أن أوروبا قارة تعمل معاً.
لكن شولتز رفض اقتراح ماكرون، مما أظهر شرخاً آخر في التحالف الغربي فيما يتعلق بتنفيذ سياسته تجاه الصين. على الرغم من المعارضة الشديدة حتى من شركائه في التحالف والولايات المتحدة، سمح شولتز أيضاً للصين بالحصول على حصة مهمة في ميناء هامبورغ، مما أظهر إصراره على تعزيز العلاقات بين بكين وبرلين.
يعود المستشار في جذوره إلى مدينة هامبورغ. وعلى الرغم من معارضة ستة من وزراء حكومته، بما في ذلك وزيرا الداخلية والمالية، فقد وافق على العرض الصيني لشراء حصة تبلغ 24.9% من الميناء، "كما يقول جوفين، مما يؤكد الخلاف الداخلي في برلين بشأن سياسة الغرب تجاه الصين.
لكن البعض رأى في تحرك شولتز للموافقة على العرض الصيني عرضاً سخياً لبكين قبل زيارته للصين. قال نوح باركين، الخبير في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين في مجموعة Rhodium Group، وهي مؤسسة فكرية أمريكية: "يبدو أن شولتز، قبل وقت قصير من توجهه إلى بكين، يعرض على الحكومة الصينية هدية".
الاعتماد الألماني على الصين
احتاج شولتز إلى تقديم مثل هذه "الهدية" إلى الصين لأنه أراد بالمقابل تأمين استثمارات صناعة السيارات الألمانية في العملاق الآسيوي، وفقاً للخبراء.
تعتمد بعض الشركات الألمانية بشكل كبير على الصين. يقول جوفين: "تتمتع صناعة السيارات الألمانية باستثمارات قوية في الصين"، في إشارة إلى شركات مثل فولكس فاجن ومرسيدس بنز وبي إم دبليو. ويضيف أن هذه العلاقات لعبت دوراً مهماً في زيارة شولتز لأنه يريد حماية حصتها في السوق الصينية.
صيغت الروابط السياسية بين ألمانيا ودول مثل الصين في إطار سياسة صيغت باسم التغيير من خلال التجارة، وهو مصطلح طورته المستشارة السابقة أنجيلا ميركل.
إن الاقتصاد الألماني متشابك للغاية مع الصين لدرجة أن كسر تلك التبعية من خلال الصدام على المدى القصير يمكن أن يضر بشكل خطير بالاقتصاد الألماني والشركات الألمانية. "هذا هو سبب توخي ألمانيا الحذر الشديد"، كما يقول جوفين.
نتيجة لذلك، على عكس الروابط بين روسيا والغرب، والتي سرعان ما تدهورت في أعقاب الصراع في أوكرانيا، تريد ألمانيا إعادة ترتيب علاقاتها مع الصين في عملية تدريجية "بمرور الوقت"، كما يقول جوفين. ويضيف المحلل أن أوروبا تهدف تحت ضغط الولايات المتحدة إلى إعادة ترتيب علاقاتها التجارية مع الصين.
قال كوي هونغ جيان الخبير في معهد الصين للدراسات الدولية: "علاوة على قطع واردات الطاقة والمواد الأساسية [من روسيا] ، فإن قطع السوق [من الصين] سيكون انتحاراً اقتصادياً".
يعتقد رافايللو بانتوتشي، الزميل الأول في المعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI)، وهو مؤسسة فكرية بريطانية، أن زيارة شولتز للصين تمثل عودة إلى "النهج الذي اتبعته أوروبا تجاه الصين سابقاً". وأضاف في حديثه مع TRTWorld إن كثيراً من الأشخاص والبلدان الأخرى يعودون أيضاً إلى مواقعهم السابقة فيما يتعلق بالصين.
بينما تواصل الدول الأوروبية استدعاء قضايا مثل تايوان ومنطقة شينجيانغ -أويغور المتمتعة بالحكم الذاتي، فإنها تهدف أيضاً إلى إعادة علاقاتها الاقتصادية مع الصين إلى مستويات ما قبل الوباء، والمضي قدماً، وفقاً لبانتوتشي.