دولة لاتينية جديدة تنضم إلى مبادرة بكين الخاصة باستخدام العملات المحلية بدلاً من الدولار لتسديد مستحقاتها التجارية مع الدول الحليفة، لتكون خطوة جديدة من بعض الدول الساعية إلى تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي، وذلك وسط النمو المتزايد للاستثمارات الصينية وعولمة اليوان، ما يُؤجج الحرب الاقتصادية بين بكين وواشنطن.
فبعد البرازيل، أعلن وزير الاقتصاد الأرجنتيني، سيرجيو ماسا، عن أن بلاده ستبدأ رسميّاً دفع قيمة الواردات الصينية باليوان، بدلاً من الدولار الأمريكي، وقال في بيان رسمي إن "هذا الشيء سيسمح بدفع قيمة الواردات من هذا البلد باليوان، لتحل محل مليار دولار و40 مليون دولار في أبريل/نيسان، و790 مليون دولار ابتداء من مايو/أيار".
وتأمل السلطات الأرجنتينية أن تساعد هذه الخطوة في الحفاظ على احتياطياتها المتناقصة من الدولار الأمريكي، إذ تأتي في إطار تعهد حكومة بوينس آيرس بتخفيف أعباء الديون مع صندوق النقد الدولي، البالغة 44.5 مليار دولار.
أزمات اقتصادية ضخمة
وحول إمكانية هذه الاتفاقية في كبح جماح التضخم الحاصل في البلاد، قال أستاذ الاقتصاد الأكاديمي أحمد ذكر الله لـTRT عربي إن "الاقتصاد الأرجنتيني يعاني أزمات كبيرة وعجزاً في الميزان التجاري، وقد أعلن إفلاسه أكثر من مرة خلال السنوات الماضية، بخاصة بعد انخفاض صادرات البلاد إلى الصين حوالي 15 مليار دولار جراء الجفاف الذي تشهده البلاد".
وأضاف، "تكمن أهمية الاتفاق في تخفيف الضغوط على الاحتياطات النقدية الأجنبية الأرجنتينية لا سيما الدولار، بخاصة مع الانخفاض المستمر لقيمة العملة المحلية البيزو خلال الفترة الماضية".
وتأتي خطوة الدفع باليوان لسداد فاتورة الصادرات الصينية لكون بكين أصبحت ثاني أكبر وجهة للصادرات في الأرجنتين، وأكبر مُصدّر للواردات في عام 2022، حسب ذكرالله.
ويُعتبر عام 2023 هو الأسوأ في موجة الجفاف التي تشهدها الأرجنتين منذ عقود، مُهددةً المصدر الرئيسي للثروة في حقول الأرجنتين الخصبة بعد الدمار الحاصل في محاصيل فول الصويا والقمح والذرة، حسب صحيفة "انفوباي" الأرجنتينية.
وأدى الجفاف الذي استمر لثلاث سنوات متتالية إلى خفض احتياطي رطوبة التربة إلى 5%، مؤثراً بشكل كبير في الاقتصاد الأرجنتيني الذي يعاني من تضخم وصل إلى 100%، وفقاً للصحيفة.
وأشار ذكرالله إلى أن اعتماد الدول التعامل باليوان بدلاً من الدولار لا يمكن أن ينقذ اقتصادها، إنما سيخفف من الأعباء الاقتصادية التي تقع على عاتقها في ما يتعلق بالاحتياطات الأجنبية.
كما يرى خبراء أن هذا الإجراء من المفترض أن يساهم في تحسين تعافي اقتصاد الدولة اللاتينية، وفتح آفاق جديدة للتعاون في ما يتعلق بحجم الصادرات، والأهم زيادة التعاون في مجال الاقتراض الخارجي بعيداً عن صندوق النقد الدولي وهيمنة الدول الغربية وغيرها.
وتسعى الصين إلى جعل عملتها المحلية اليوان رقمية بهدف كسر احتكار الدولار الأمريكي لسوق العملات العالمية، إذ تعمل بكين على إنشاء نظام مدفوعات يتيح لليوان التمتع بنفوذ أكبر في الخارج، من دون المساس بالضوابط المفروضة على رؤوس الأموال الصينية في الداخل.
تدهور العملة المحلية
"تراجع الثقة في البيزو، وهي العملة المحلية للأرجنتين، هو أحد أسباب توجه البلاد نحو التعامل باليوان في تبادلها التجاري"، حسب الخبير المصرفي الدكتور نسيب جبرايل.
وأوضح جبرايل لـTRT عربي أن "البيزو فقد 20% من قيمته منذ بداية العام الحالي، وقد سجل 227 مقابل الدولار الأمريكي في سوق الصرف الرسمية، لكنه شهد تراجعاً أكبر في السوق الزرقاء الموازية، وهي السوق التي تكون فيها المنافسة قليلة أو معدومة".
التدهور جاء في وقت ارتفع فيه معدل التضخم إلى ما يزيد على 100% الذي تفاقم بسبب جائحة "كورونا"، والانخفاض الحاد في الصادرات الزراعية بسبب الجفاف التاريخي، وازداد مع اقتراب موعد الانتخابات العامة في البلاد في أكتوبر/تشرين الأول وسط حالة من الغموض وعدم الثقة، وفق جبرايل.
وتهدف خطوة البرازيل والأرجنتين وغيرها من الدول التي اعتمدت اليوان إلى الحفاظ على الاحتياطي من العملات الأجنبية، خصوصاً الدولار، لأنه لا يزال العملة الأساسية في المعاملات التجارية والمالية في العالم، حسب جبرايل.
وتابع، "هذه الطريقة تساعدهم على دفع مستحقاتهم للصين بعملتها المحلية من دون أن تتأثر في احتياطاتها من الدولار، مع العلم أن العملات المحلية تتأثر بالأزمات العالمية والبيزو الأرجنتيني هو خير مثال على ذلك، ما أدى إلى زيادة الطلب على الدولار الأمريكي".
الدولار لا يزال "طاغياً"
وحول منافسة اليوان مع الدولار، يرى جبرايل أن العملة الصينية لا تشكل 2% من المعاملات التجارية العالمية ولا يزال الدولار مسيطراً، خصوصاً أننا لا نستطيع شراء العملة الصينية في الأسواق النقدية العالمية كونها عملة ليست محررة"، مضيفاً "في حال تحررت ممكن أن يزيد الطلب عليها".
"لذلك لا يمكن القول إن اليوان في منافسة مع الدولار الأمريكي، والحقيقة أن الصين تحاول خلق نوع من منطقة تجارية يستعمل فيها اليوان مع روسيا والأرجنتين والبرازيل وغيرها من الدول، لكن هذا لن يؤدي إلى منافسة كون الدولار لا يزال طاغياً في المعاملات العالمية"، حسب جبرايل.
من ناحيته، قال الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي لـ TRT عربي إن "هناك قفزة فوق الدولار من قبل بعض الدول التي تعاني من نقص في احتياطاتها من العملات الأجنبية، لكن لا نستطيع تعميم هذه التجربة على جميع الدول من ناحية تبادل العملات المحلية في ما بينها، فإذا نفذتها البرازيل فهي أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، والصين تشكل ثاني أكبر شريك تجاري للأرجنتين، لكن ليس باستطاعة بقية الدول سداد فاتورة استيرادها بالعملة المحلية".
ويعتبر يشوعي أنه رغم قوة الصين الاقتصادية، فإن التعامل باليوان لا يزال قليلاً جداً ولا يتخطى 5% على صعيد التجارة الدولية، ولا يزال اليوان عملة محدودة عالمية، و"سننتظر سنوات لنرى هذه العملة قوية"، على حد قوله.
وفي مساعٍ لإضعاف هيمنة الدولار في المنطقة، أعلنت البرازيل والأرجنتين أنهما تستعدان لإطلاق عملة مشتركة، تسمى "SUR" (جنوب)، والتي يمكن أن تصبح في نهاية المطاف مشروعاً شبيهاً باليورو تتبناه كل أمريكا الجنوبية، وفقاً لـ"بزنس إنسايدر".
وقال زعيما الدولتين في بيان مشترك إن العملة الموحدة يمكن أن تساعد في تعزيز التجارة في أمريكا الجنوبية، لأنها تتجنب تكاليف التحويل وعدم اليقين بشأن سعر الصرف.
ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تآكل هيمنة الدولار في المنطقة، بالنظر إلى أن الدولار يمثل ما يصل إلى 96% من التجارة بين أمريكا الشمالية والجنوبية من عام 1999 إلى عام 2019، وفقاً لبيانات مجلس الاحتياطي الفيدرالي.
في حين استطاعت العملة الصينية اليوان أن تصبح الأكثر تداولاً وتحل محل الدولار الأمريكي في روسيا، وقد ساعدت العقوبات الغربية على موسكو في تحقيق ذلك من جراء العملية العسكرية التي تشنها في كييف منذ فبراير 2022، حسب وكالة "بلومبرغ".
وأكدت وكالة بلومبرغ أن حجم تداولات العملة الصينية في السوق الروسية كان ضئيلاً قبل الحرب في أوكرانيا، لكن تشديد الإجراءات التقييدية واسعة النطاق ضد موسكو دفع الشركات الروسية إلى تحويل عمليات التجارة الخارجية من الدولار واليورو إلى عملات الدول الصديقة أي عملات الدول التي رفضت الانضمام إلى العقوبات.
وتأمل الدول التي لجأت إلى صفقة العملات المحلية أن يؤدي التداول باليوان إلى تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي مع نمو الاستثمار الصيني في المنطقة، في حين تأمل بكين في أن توفر التحركات مزيداً من الزخم في جهودها لعولمة اليوان.