يشهد العراق أزمةً اقتصادية خانقة بسبب الانخفاض المستمر في سعر الدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي، وسط مطالباتٍ شعبية بإيجاد الحلول وإنقاذ الفقراء من ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع المختلفة. ويأتي ذلك مع إعلان برنامج الحكومة العراقية الجديدة بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي وعد بإجراء تغييرات إدارية من شأنها تخفيف مشاكل الشعب المعيشية، في ظل فرض عقوبات أمريكية صارمة على البنوك العراقية.
من أين بدأت قصة هبوط قيمة الدينار العراقي؟
من يتابع الشأن العراقي يدرك مراحل انهيار الدينار التي بدأت منذ عام 2018 مع تصاعد عمليات تهريب الدولار الأمريكي إلى سوريا وإيران، ثم تفاقم هذه المعضلة تزامناً مع تطبيق البنك الفيدرالي الأمريكي لعملية ربط البنك المركزي العراقي بالمنصة الإلكترونية من خلال "نظام سويفت Swift" لتتبع الحوالات النقدية، فقد هدفت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تطبيق هذا النظام المصرفي لمراقبة حركة الدولار والتأكد من عدم تهريبه إلى الدول الإقليمية الخاضعة للعقوبات الأمريكية.
وفي هذا السياق يقول الخبير المالي صباح العبيدي لـTRT عربي: "فرَض البنك الفيدرالي الأمريكي تعليماتٍ معقدة أبرزها: التزام البنك المركزي العراقي قواعد الامتثال الجديدة التي جرى ربطها بسلسلة من القيود والضوابط التجارية التي تتطلب معلومات تفصيلية عن الجهة المستفيدة ونوع البضائع المستوردة وكمياتها، بجانب كشف حساب إبراء الذمة من الدوائر الجمركية والضريبية، وهي إجراءات لم يعتد عليها المستورد العراقي، الأمر الذي أدى إلى انخفاض ملحوظ في مبيعات البنك المركزي من العملة".
وأضاف العبيدي "حقّق العراق خلال عام 2022 إيرادات مالية هي الأعلى مقارنةً بالسنوات السابقة، إذ زادت على 115 مليار دولار، كما وصل البنك المركزي إلى احتياطات نقدية بأكثر من 100 مليار دولار. ولكن بالرغم من هذا التصاعد النقدي في الخزينة المالية، فإن عمليات تهريب الدولار من المنافذ الحدودية والتحويلات المصرفية المشبوهة في حسابات البنوك الإيرانية، كانت سبباً مباشراً في تفاقم أزمة هبوط قيمة الدينار العراقي".
السوق السوداء تُهيمن على المشهد الاقتصادي
تراجعت قيمة الدينار العراقي منذ منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي 2022، من 1480 ديناراً للدولار الواحد إلى مستويات قياسية مضطربة وصلت قبل أيام إلى 1660 ديناراً، ولم تنفع العمليات الأمنية التي جرى خلالها اعتقال عشرات المضاربين وتجار العملة في العاصمة بغداد، ولم تستطع الحكومة العراقية ضبط الأسعار أو على الأقل كبح تراجع العملة المحلية المتواصل.
وبهذا الصدد تحدث عضو اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي جمال كوجر لموقع TRT عربي مصرحاً بالقول: "عمليات غسيل الأموال وبيع الدولار في السوق السوداء، تُعتبر أحد أبرز التحديات التي تواجه الحكومة العراقية في طريق مكافحة انهيار الدينار. وسبّبت بدورها ارتفاعاً في سعر صرف الدولار في الأسواق المحلية، إذ تلجأ مكاتب الصيرفة إلى تحويل الأموال إلى خارج العراق بطرق غير قانونية، ودون إرسال الايصالات والوثائق إلى البنك المركزي العراقي".
كما أشار كوجر إلى "خطورة إستمرار تحويل الأموال بفواتير وهمية لا تعكس الطلبات الحقيقية للاستيراد، إذ تشوب هذه العملية أرقام غير دقيقة ومرتبطة بصفقات فاسدة تتمثل بغسيل الأموال وتهريب العملة الصعبة إلى خارج البلاد، وهذه المؤشرات تتطلب قرارات حاسمة من قبل الحكومة العراقية لملاحقة التجار المحليين ومراقبة شركات الصيرفة، وفرض عقوبات صارمة ضد المخالفين".
إقالات وتغييرات إدارية قلقة
نقلت وكالة الأنباء العراقية الرسمية قراراتٍ حكومية أجراها رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني، والذي تضمنت إعفاء محافظ البنك المركزي مصطفى غالب مخيف من منصبه، وتكليف علي محسن العلاق بإدارة البنك المركزي بالوكالة، بالإضافة إلى إقالة مدير المصرف العراقي للتجارة TBI سالم الجلبي على خلفية التراجع الكبير في أسعار صرف الدينار مقابل الدولار الأمريكي، والمتواصل منذ أسابيع والذي تسبَّب في اضطرابات شديدة بالأسواق المحلية وأدى إلى ارتفاع كبير لأسعار السلع ومعظم المواد الغذائية.
على خلفية ذلك صرّح مدير مرصد النقد المالي فالح الجبوري في حديث لـTRT عربي وقال: "تكليف علي العلاق محافظاً للبنك المركزي العراقي يعيد سيناريو الخلافات السياسية بين الأحزاب الحاكمة في العراق، خصوصاً بعد تورط العلاق بملفات فساد كبيرة في سنوات شغله للمنصب بين عامَي 2014 و2020، الأمر الذي لا يُبشر بأية خطوات جدية لمعالجة أزمة هبوط الدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي".
وتابع الجبوري: "هذه التغييرات الإدارية تنبع من إصرار الإطار التنسيقي على إعادة شخصيات فشلت سابقاً في إنقاذ النظام النقدي، ولا يمكن حل هذه الأزمة عن طريق تصفية الصراعات السياسية على حساب قوت المواطن العراقي"، موضحاً أن الإجراء الآخر الذي اتخذه السوادني المتمثل في "إحالة مدير المصرف العراقي للتجارة سالم الجلبي إلى التقاعد وتكليف بلال الحمداني، سيفتح النار في وجه العلاقات الأمريكية مع العراق، كون المدير السابق الجلبي جاء بتوصية أمريكية عام 2020، نتيجة الضغط على رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي".
إجراءات حكومية لتقليل الأزمة
بدوره تحدث المستشار المالي لرئاسة الوزراء مظهر محمد صالح لـ TRT عربي مصرحاً حسب قوله: "تحاول الحكومة العراقية تنفيذ إجراءات نقدية محكمة لمعالجة أزمة انهيار الدينار العراقي، ومن بين هذه الإجراءات فتح نافذة جديدة لبيع العملة الأجنبية لصغار التجار عبر المصرف العراقي للتجارة (TBI)وتمويل البنك المركزي للمصرف العراقي للتجارة بمبلغ إضافي قدره 500 مليون دولار أمريكي لغرض فتح الاعتمادات المستندية لصغار التجار، والاكتفاء بالفاتورة الأولية ورقم حساب المستفيد الأخير من الاعتماد".
وشدد على "ضرورة التعاون من الحكومة العراقية في سبيل تسهيل إجراءات الاستيراد وتقليص متطلبات فتح الاعتمادات المستندية، وإلغاء إجراء الهيئة العامة للضرائب الخاص بفرض غرامات تأخير على المستوردين وباقي المكلفين بالهيئة المذكورة".
كما لفت صالح في حديثه إلى "اتباع الحكومة مساراً استراتيجياً يمضي نحو إشراك غرف التجارة واتحاد الصناعات في جلسات المجلس الوزاري للاقتصاد، لدعم القطاع الخاص وتعظيم الصادرات النفطية وزيادة النقد المالي في احتياطي البنك المركزي العراقي".
عودة الاحتجاجات في العاصمة بغداد
شهدت بغداد احتجاجات شعبية يوم الأربعاء الماضي 25 يناير\كانون الثاني ، نتيجة استمرار هبوط الدينار في ظل ارتفاع الأسعار، وعدم قدرة الحكومة العراقية على ضبط قيمة العملة الوطنية، وتعقيباً على ذلك صّرح الناشط السياسي حيدر المياح لـTRT عربي وقال: "لا نرى أي حلول جدية من الحكومة العراقية، فهي تحاول تخدير الشعب عن طريق التغييرات الإدارية، ولكنها لا تلتزم وعودها، الأمر الذي أسهم في انخفاض قيمة الدينار العراقي بشكل أكبر، وأدى إلى ازدياد أعداد العاطلين من العمل وتوقف الكثير من المشاريع الخاصة، وازدياد نسب الفقر بسبب الارتفاع الكبير لأسعار المواد الغذائية".
وتابع المياح: "سنبقى في ساحات التظاهرات ونرفع اللافتات المناهضة للمحاصصة الحزبية أمام البنك المركزي حتى تحقيق المطالب المشروعة، والكشف عن ملفات الفساد وفضح المتورطين بعمليات تهريب العملة خارج البلاد" مشيراً إلى "أن ما يحدث من إجراءات لا يتعدى نطاق الحلول الترقيعية التي تنتهجها الحكومة لإخفاء فشلها" حسب تعبيره.
أزمة هبوط قيمة الدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي تفتح ملفاً ساخناً في الأوساط العراقية، خصوصاً بعد فرض عقوبات قاسية من البنك الفيدرالي الأمريكي على المصارف العراقية، وعدم قدرة الحكومة على إقناع الشعب بإجراءاتها المالية، وعودة الاحتجاجات في العاصمة بغداد تنديداً بارتفاع أسعار المواد الغذائية وغلق عديد من المحلات والمشاريع التجارية الأهلية.