يزور السياح منطقة الفاتح الزاخرة بالمعالم الأثرية والتاريخية، ويتجولون في متنزَّه غولهانه، الذي كان جزءاً من القصر السلطاني، لكنهم يفوتهم، في غمرة الاستمتاع بظلال الأشجار العتيقة، أن ينعطفوا يميناً بعد اجتياز بوابة البارك، لزيارة المتحف الذي يجمع تراث حضارات الشرق والغرب معاً.
عثمان حمدي بك.. المفكر والآثاري الرسام
أسس المتحفَ عام 1881 عثمان حمدي بك، وعمل مديراً له لما يقرُب من ثلاثة عقود حتى وفاته عام 1910. يُعتبر عثمان حمدي بك من أوائل الرسامين الأتراك، وأول من قاد حملات تنقيب في أنحاء الإمبراطورية العثمانية، بعد أن كان القناصلة الأجانب والبعثات الغربية يفعلون ذلك في السابق.
وقد تكون البعثة التنقيبية التي قادها لاستكشاف المقبرة الملكية في صيدا بلبنان بين عامَي 1878 و1888 الأكثر أهمية، إذ أسفرت عن العثور على التابوت الرائع المحفوظ في المتحف الرئيسي والمنسوب إلى الإسكندر الكبير.
لم يكتفِ حمدي بك، صاحب لوحة مدرب السلاحف الشهيرة التي بيعت لرجل أعمال تركي عام 1992 بقيمة 700 ألف دولار في حينها، بذلك، وقاد تنقيبات في جبل نمرود والعراق، إذ كانت لوحاته تعكس اهتمامه بمدينة بغداد.
افتُتح المتحف الرئيسي، المبني على الطراز الكلاسيكي الحديث، عام 1896، بعد أن أصبح المتحف القديم صغيراً على المجموعة. ولا يُعتبر المتحف الأقدم في إسطنبول فحسب، بل أحد أهمّ المتاحف في أوروبا، إذ تضمّ المتاحف الثلاثة أكثر من مليون قطعة أثرية.
وبسبب توسع المجموعة الأثرية شهد المتحف توسعات وبناء ملاحق بالمبنى الرئيسي، الواقع إلى يمين المدخل، في عامَي 1988 و1992، ويشهد المبنى الرئيسي الآن تحديثات من شأنها أن تجعل طريقة العرض عصرية، وتحاكي ما هو موجود في المتاحف العالمية من ناحية الإضاءة والحفظ.
الإسكندر والعالم الهيليني
في بهو المتحف سنجد أحد أهمّ التماثيل للإله بس، وهو إله مصري حظي بالشهرة في عصر الدولة الحديثة، ويصوَّر على هيئة قزم له وجنتان منتفختان ولحية تشبه المروحة.
لكن هذا التمثال جِيءَ به من قبرص ويمثّل هرقل القبرصي وهو يحمل لبؤة بلا رأس من طرفيها الخلفيين، ويعود في تاريخه إلى الفترة ما بين القرنين الأول والثالث للميلاد.
ومن بين اللقى المهمة تابوت كان بالأصل لجنرال مصري من القرن السادس قبل الميلاد، ولكنه استُخدم لدفن أحد ملوك صيدا من سلالة تابنيت.
لكن التحفة الأكثر إبهاراً بمشاهدها الرائعة هي تابوت الإسكندر، المنسوب إليه لأنه يصوّره في مشاهد صيد، فضلاً عن معركة إسوس التي انتصر فيها على داريوس الثالث، ملك الأخمينيين الفرس، عام 333 قبل الميلاد في جنوب الأناضول. لكن التابوت في الحقيقة يُنسب إلى الملك عبدالونيموس، ملك صيدا بلبنان.
ويأبى الإسكندر الكبير ترك المتحف دون أن يخلد نفسه باثنين من أشهر الرؤوس التي تمثله في العالم، أحدهما نسخة من القرن الثالث قبل الميلاد جِيءَ بها من بيرغاموم عن أصل للنحات اليوناني ليسيبوس يصور الفاتح الإغريقي كما يصفه المؤرخ بلوتارخ. في حين يصور التمثال الثاني الإسكندر على هيئة هرقل، وقد جيء به من مدينة ماغنيسيا Magnesia Ad Sipylum قرب إزمير.
اقرأ أيضاً:
يضمّ الجزء الجنوبي من المتحف عديداً من القطع الجنائزية، بمشاهد منحوتة في الرخام ببراعة، من بينها تمثال بارع لأوشيانوس، إله الأنهار الإغريقي، نصفَ مستلقٍ على جانبه الأيسر، جِيءَ به من إفسوس، إحدى أعظم المدن الإغريقية في الأناضول.
متحف الشرق القديم
على يسار المدخل ينتصب أسدان من العصر الحيثي الحديث (القرن الثامن قبل الميلاد) مصنوعان من البازلت الأسود بأنياب متأهبة لحراسة السلالم المؤدية إلى مبنى متحف الشرق القديم.
يُعتبر المتحف صغيراً من ناحية حجم الآثار، ولكنه في غاية الأهمية بالنسبة إلى المعروضات التي يضمّها والتي ستأخذ السائح في جولة من اليمن وشبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، إلى سومر وبابل وأشور وحضارات الآراميين والحيثيين في سوريا والأناضول، فضلاً عن مجموعة صغيرة من اللقى المصرية القديمة.
أقدم قصيدة حب في التاريخ
يضمّ المتحف كثيراً من اللقى السومرية التي جاءت من مدن جنوب العراق المهمة، وحيث ظهرت الكتابة أول مرة. ومن بين اللقى السومرية المهمة تمثال حاكم مدينة أداب، لوكال-دالو، من الألف الثالث قبل الميلاد والمنذور للإله إيشار، كبير آلهة المدينة الواقعة في واسط، جنوب شرق العراق اليوم.
ويحتفي المتحف بمجموعة مسمارية فريدة توضّح تطور الخط المسماري، الذي نشأ في بلاد النهرين وانتشر في عموم الشرق الأدنى القديم لتكتب به لغات عدّة.
تضم خزانة الوثائق السومرية كنوزاً مهمة، مثل العقود القانونية من بلاد النهرين، وفسخ عقد خطبة، وجداول رياضية مدرسية، ورسالة ابن إلى والدته من الألف الثاني قبل الميلاد، وبالتأكيد أقدم قصيدة حب في التاريخ، من نفر، بجنوب العراق، من عهد سلالة أور الثالثة (2037- 2029 قبل الميلاد)، التي تسجل أغنية حب لشعيرة الزواج المقدس، وتقول في مطلعها:
أيها العريس الحبيب إلى قلبي
جمالك باهر حلو كالشهد
أيها الأسد الحبيب إلى قلبي
جمالك باهٍ حلو كالشهد
لقد أسرت قلبي فدعني
أقف بحضرتك وأنا خائفة مرتعشة
قوانين وإصلاحات وأقدم معاهدة للسلام في التاريخ
تضمّ مجموعة الوثائق أيضاً، التي قد لا تثير انتباه الزائر غير المتخصص، نسخاً من قوانين أورنمو، الملك السومري أقدم مشرّع في التاريخ في الألف الثالث قبل الميلاد، ونسخاً محلية من مسلة الملك البابلي الشهير حمورابي (من القرن 18 قبل الميلاد، محفوظة في اللوفر)، فضلاً عن نسخة من أقدم إصلاحات في التاريخ للملك أوروكاجينا، ملك لكش السومري، في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، الذي قام من جملة ما قام به بفصل الدولة عن المؤسسة الكهنوتية، ومنع تعدد الأزواج للنساء.
ومن بين أهمّ المعروضات على الإطلاق، النسخة الحيثية من معاهدة قادش، أول معاهدة للسلام في التاريخ التي وُقّعت بين الملك المصري رمسيس الثاني والملك الحيثي عام 1256 قبل الميلاد.
كُتبت المعاهدة، التي تنص على السعي لإحلال السلام واستخدام السبل الدبلوماسية لحل الأزمات، باللغة الأكدية، لغة بلاد النهرين القديمة ولغة الدبلوماسية في العالم القديم في حينها. وفي مبنى الأمم المتحدة بنيويورك نسخة طبق الأصل من المعاهدة، ونسخة أصلية بالهيروغليفية المصرية في معبد الكرنك في مصر العليا.
نارام سين.. حفيد أول إمبراطور في التاريخ
تُعتبر الإمبراطورية الأكدية التي أسسها سرجون الأكدي أول إمبراطورية في التاريخ، ولحفيد سرجون، الملك نارام سين، مسلة في هذا المتحف عُثر عليها في قرية بير حسن، قرب ديار بكر، وترجع في تاريخها إلى القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد. في منتصف القاعة تمثال لبوزور-عشتار، الحاكم العسكري لمملكة ماري، في البوكمال السورية حالياً، الذي عيّنه الأكديون عام 2050 قبل الميلاد.
أشور وكلخ
بعد أن تعرضت مدينة كلخ (النمرود) للتدمير في العراق على يد تنظيم داعش عام 2015، بقيت متاحف عديدة في العراق وفرنسا وبريطانيا وألمانيا لتوثّق الحضارة الأشورية العظيمة.
ويفتخر متحف إسطنبول بضمه العديد من القطع الأشورية المميزة، ومنها الجدران المزينة بالجن المجنح الحامل لأكواز الصنوبر والملوك وكبار موظفي البلاط من عهد الملك أشور ناصربال الثاني (القرن التاسع قبل الميلاد)، وأجزاء من بوابات بلاوات الخشبية المزينة بقطع من البرونز تُظهِر مشاهد حربية.
وفي وسط القاعة يقف تمثال شامخ للملك الأشوري شلمناصر الثالث (القرن التاسع قبل الميلاد) يحمل صولجاناً بيده اليسرى وسيفاً باليد اليمنى وهو حاسر الرأس. يُعتبر هذا التمثال من بين عدد قليل من التماثيل المجسمة بالكامل للملوك الأشوريين، وقد اشتهر شلمناصر الثالث بحملاته على سوريا والبابليين في جنوب العراق، وهزم تحالف 11 ملكاً في سوريا وأجبر ملك دمشق حزائيل وملك إسرائيل آحاب على تقديم الجزية والخضوع لسلطان الأشوريين. في القاعة ذاتها يمكن أن يشاهد الزائر تمثالاً غير مكتمل لملك أشوري يقف حاسر الرأس وقد ضمّ يديه أمام صدره في الوضع التعبدي المعروف منذ أيام سومر.
بابل في إسطنبول
في ثنايا المتحف يمكنك أن تتجول في جزء مصغر من شارع الموكب في بابل من عهد الملك نبوخذنصر الثاني (605-562ق.م).
فبعد تنقيب الألماني روبرت كولدواي عن الآثار في بابل، وحصوله على إذن من الدولة العثمانية لنقل بوابة عشتار إلى برلين، لتكون أهم القطع المعروضة في متحف البيرغامون، عُرضَت أجزاء من البوابة وشارع الموكب في هذا المتحف.
سيأسرك اللون الأزرق للآجُرّ البابلي المزين برموز الآلهة: الثور (إله الرعد أداد)، والأسد (رمز الإلهة عشتار، إلهة الحب)، والتنين الهجين (رمز الإله مردوخ، إله مدينة بابل الرئيسي). ويضمّ المتحف أيضاً مسلة لآخر ملوك بابل نبونائيد، الذي سقطت الإمبراطورية الكلدانية في عهده عام 539 قبل الميلاد بيد الفرس الأخمينيين.
يضمّ المتحف أيضاً عديداً من اللقى الآرامية والحيثية الجديدة المهمة، فضلاً عن مومياء مصرية وأوعية حفظ الأحشاء المحنطة وبعض الحليّ الفرعونية.
متحف الخزف الإسلامي.. أول مبنى عثماني علماني
يعود هذا المتحف، المبنيّ من الآجُرّ الأحمر بطراز فارسي جميل وأواوين باهرة مزينة بالخط الكوفي، في تاريخه إلى عام 1472 ميلاديّاً، إذ يُعتبر أول مبنى غير ديني بناه السلطان محمد الفاتح كجزء ملحق بقصر توب كابي. يضمّ المتحف المعروف بالتركية بـ"الكشك الصيني"، قطعاً رائعة من الخزف السلجوقي والعثماني من أكثر مراكز إنتاج السيراميك العثماني في إزنيك وكوتاهيا.
ومن بين القطع المهمة في المتحف، بعيداً عن الزجاج الملون والقباب والمقرنصات للمبنى نفسه، محراب جامع إبراهيم باشا في كارامان، جنوب وسط تركيا، ونافورة مزينة بطاووس من عام 1590 ميلادياً. وفي هذا القسم يمكن رؤية لوحة لعثمان حمدي بك مؤسس المتحف الأثري، بملابس عربية.
لا يمكن للزائر تفويت فرصة الاستمتاع بحدائق المتحف وأجوائها الساحرة. في فناء المتحف كثير من الأعمدة الرومانية واليونانية والبيزنطية، ورأس ضخم لميدوسا، إحدى الغورغونات الثلاث، التي تحولت إلى امرأة بشعة المظهر برؤوس ثعابين بعد ممارستها الجنس مع بوسيدون في معبد أثينا. وهذا الرأس يماثل رأسَي ميدوسا الموجودين في كنيسة الحوض Basilica Cistern أو يريباتان ساراي العائدة إلى العهد البيزنطي والتي تقع على مقربة من أيا صوفيا.
أجواء الحديقة، وسور القصر الذي يسير بموازاة أسوار بيزانتيوم القديمة، تمنح السياح إطلالة آسرة على متنزَّه غولهانه وفرصة لالتقاط صور مميزة ورومانسية.