في البدء لا بد من الإشارة إلى أن الموقف الصيني من الحرب في أوكرانيا، ينطلق من ثلاثة محاور أساسية تبدو متشابكة ومعقدة، الأول استراتيجي ويتلخص في أن بكين تقف مع موسكو في نفس الخندق في مواجهة المعسكر الغربي.
أما المحور الثاني فهو مبدئي، ينطلق من أحد أهم الأساسيات التي ترتكز عليها السياسة الخارجية للصين، ويتمثل في مبدأ "احترام سيادة وسلامة أراضي الدول"، والمحور الثالث يتعلق بعلاقاتها ومصالحها الاقتصادية والتجارية مع جميع أطراف الأزمة.
ومن المهم القول هنا، إن مساعي روسيا، قبل حربها على أوكرانيا، لتعزيز مكانتها دولياً في ظل إعادة تموضع أمريكي كانت ترتكز على علاقتها بالصين، أما بعد الحرب فقد باتت تنظر إلى بكين على أنها الرئة التي ستتنفس منها وحبل النجاة الرئيسي لامتصاص صدمة العقوبات الغربية.
المنطقة الرمادية
بدا الموقف الصيني منذ بداية الأزمة غير متحمس لحدوث توترات تؤدي إلى اشتعال حرب لا يمكن توقع مآلاتها، وتهدد الاستقرار العالمي النسبي الذي تستثمره الصين لمواصلة مسيرتها.
لكن مع دخول العملية العسكرية في أوكرانيا حيز التنفيذ، كان لازماً على بكين أن تغادر المنطقة الرمادية وتتخذ موقفاً واضحاً، فكان أن رفضت المصطلح الغربي باعتبار ذلك "غزواً روسياً"، واتهمت في المقابل واشنطن بأنها "أججت التوترات وأشعلت تهديدات الحرب"، كما اعتبرت أن توسع حلف شمال الأطلسي باتّجاه الشرق هو الشرارة التي أشعلت الحرب.
واعتبر هذا الموقف خطوة متقدمة للصين في دعم الموقف الروسي، مع الأخذ بالاعتبار أن العلاقات القوية بين الجارتين العملاقتين بعيدة عن أي تحالف رسمي يلزم إحداهما بإرسال قوات إلى الدولة الأخرى عندما تواجه تهديدات.
لم يستمر هذا التوجه على نفس الوتيرة، ولم تذهب فيه بكين بعيداً، واكتفت بعده بالامتناع عن التصويت في مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة على إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، واستعدادها للقيام بوساطة بين موسكو وكييف.
عواقب وخيمة
مع استمرار الحرب على أوكرانيا، باتت بكين مطالبة بالإفصاح بشكل أوضح عن مواقفها، خصوصا في مواجهة كم هائل من التصريحات الأميركية التي حملت في طياتها اتهامات لها بالانحياز إلى موسكو، وبأنها تسعى لتقديم الدعم لروسيا، بعد أن طلبت الأخيرة مساعدات اقتصادية وعسكرية، وسبلاً للالتفاف على العقوبات الغربية.
كما حملت تلك التصريحات مطالبات للصين لإبداء قدر كبير من التماهي مع المواقف الدولية من روسيا، خصوصا مع وجود تحذير أمريكي شديد اللهجة بأنها ستواجه عواقب وخيمة وستصبح دولة منبوذة في حال قدمت الدعم لموسكو.
وأصبح واضحاً للقيادة الصينية أن عليها تحصين موقفها، وأن تدرك أن أي دعم تقدمه لروسيا، من شأنه أن يورطها في صراع أكبر مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة، التي بدأت أكثر استعداداً لانتهاج استراتيجية شاملة مبتكرة للتعامل مع تهديدات جديدة عنوانها الأبرز صعود قوى جديدة منافسة على الساحة الدولية.
ويبدو أن بكين كانت أكثر يقظة،حتى الآن، في مواجهة أي استدراج أمريكي من شأنه أن يزج بها في الصراع بشكل مباشر، وأن يجعل منها هدفاً لأي عقوبات اقتصادية تعيق نهضتها.
وقد دفع رد الفعل الدولي القوي والرد الغربي الموحد على الحرب الذي شمل عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا، المسؤولين الصينيين إلى إعادة ضبط مواقفهم، كما منحت تداعيات الحرب وما آلت إليه الأوضاع حتى الآن بكين فرصة ذهبية لرسم خطواتها بشكل دقيق.
وبدا أن بكين تسير على حبل مشدود، فهي من ناحية لا تحب أن ترى انهياراً روسياً شاملاً، كما أنها في المقابل تسعى للحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا.
لكن الأزمة التي انخرطت فيها روسيا وأربكت أوروبا وشغلت واشنطن، منحت الصين فرصة لاستثمارها لصالحها، فجميع الأطراف فيها منافسون لها، وهم في ذات الوقت يسعون لتعزيز علاقاتهم بها، وهي من جانبها تسعى كي لا تخسر روسيا، ولن تغامر بخسارة الغرب، كما أنها ستستفيد من هذا الانشغال العالمي للتمدد اقتصادياً في مساحات أكبر وخصوصاً في آسيا وأفريقيا.
بكين بين موسكو وواشنطن
في احتدام الحرب في أوكرانيا وثبات الموقف الصيني تجاهها، ظهرت أصوات أمريكية، عبر عنها كثير من السياسيين وكتاب الأعمدة، ترى في الأزمة فرصة سانحة نحو إصلاح ما فسد من العلاقات بين واشنطن وبكين.
ونقلت تقارير أمريكية إن الصين تبدي استعداداً للعمل مع الولايات المتحدة في إطار شراكة "إعادة بناء عالم أفضل" التي تحدث عنها الرئيس الأميركي جو بايدن، وأعلن وزير الخارجية الصيني أن بلاده مستعدة للدخول مع واشنطن في تلك الشراكة، وأنها ترحب بالمشاركة الأمريكية في برنامج الحزام والطريق.
وفي ظل هذا الطرح، فإن اجتماع قوة الولايات المتحدة والصين، سيشكل بالتأكيد تحولاً أساسياً سيصب في مصلحة العالم.
في المقابل، تعد الصين بالنسبة إلى روسيا أكبر شريك اقتصادي في العالم، وبلغ التبادل التجاري بين البلدين نحو 140 مليار دولار عام 2021، إضافة إلى توقيع صفقات في فبراير/شباط الماضي بقيمة 117 مليار دولار، فالصين تستورد من روسيا النفط والغاز والسلاح وتصدر لها كل شيء تقريباً.
كما أن الطرفين يتعاملان فيما بينهما بالروبل الروسي واليوان الصيني، وفقاً للاتفاق الموقع بينهما عقب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وهو ما يسمح بالالتفاف على العقوبات الأمريكية والأوروبية.
هذا التكامل الاقتصادي بين البلدين، مع وجود تداخل حيوي جغرافي مضبوط بينهما، بالإضافة إلى مساحات التقاء كبيرة بينهما استراتيجياً وسياسياً، قد تشكل كلها دوافع قوية لكليهما للوقوف في نفس الخندق في مواجهة الغرب، للحد من أثر العقوبات وتداعيات الحرب، وللوقوف في وجه التفرد الأمريكي.
لكن هل من الممكن أن تذهب بكين بعيداً في دعم موسكو؟ لا يبدو ذلك في الأفق، فالحرب ومناخها المضطرب بشكل عام لا تخدم مصالح الصين الإستراتيجية وستكون عثرة في وجه تمددها الاقتصادي، كما أن أي عقوبات اقتصادية عليها ستحرمها السوقين الأمريكية والأوروبية اللتين تستوعبان الجزء الأكبر من صادراتها.
وفي الردود على أن الصين ربما تستثمر الأزمة من أجل مهاجمة تايوان، فإن هذا الطرح لا يتسق مع الرؤيا الصينية لطبيعة المشكلة مع تايوان، وكما صرحت وزارة الخارجية فإن أي مقارنة في هذا السياق تُظهِر "غياب الفهم الأساسي لتاريخ قضية تايوان"، لأن الصين تعتبر تايوان جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، والأمر نفسه يمكن أن ينسحب على التوتر في بحر الصين الجنوبي.
وسيبقى على بكين أن تواصل مناوراتها الدبلوماسية وأن تستثمر نقاط قوتها في الضغط على جميع الأطراف للوصول إلى تسوية توقف الحرب.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.