ويعتقد الأمريكيون أن الدستور يعبر عن أمريكا وقيمها الأخلاقية الاجتماعية والسياسية. حيث تختلف الولايات المتحدة الأمريكية اختلافاً كبيراً عن بقية الدول الغربية الأخرى بإرثها التاريخي وتطورها السياسي. يعتقد كثير من الأمريكيين أن الدستور الأمريكي كان ولا يزال العروة الوثقى التي يرجعون إليها بمختلف مشاربهم السياسية وجذورهم العرقية حتى صار تعريفاً لمواطنتهم وجامعاً لوحدتهم.
لقد كانت نشأة الولايات المتحدة نتيجة لتصميم هذا الدستور وليس نتاجاً عن تطور مجتمعات بشرية كالقبائل وغيرها من التجمعات الإنسانية الأخرى، حال كثير من دول العالم الحديثة.
كتب توماس جيفرسون، أحد أشهر الآباء المؤسسين الأمريكيين وثالث رئيس أمريكي، إعلان الاستقلال الأمريكي في مسودة حملت الكثير من القيم الإنسانية الداعية إلى الحرية والمساواة. إلا أنّ الواقع السياسي الأمريكي يشير إلى أن هذه القيم السامية كانت حكراً لفترات زمنية طويلة لطائفة من الرجال البروتستانت البيض الذين حافظوا على تفوقهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي بعد الاستقلال الأمريكي، وما زادتهم الثورة الأمريكية إلا حظوة اجتماعية وسياسية بعد حظوة.
حقوق السود والدستور الأمريكي
وهنا يسأل عالم السياسة الأمريكي روبرت دال عن قصور الدستور الأمريكي في توفير الحرية للملايين من الرقيق السود الذين عانوا من ويلات العبودية والشقاء تحت سيطرة البيض نحو قرن كامل بعد استقلال الولايات المتحدة وإجازة الدستور الأمريكي. لم يتنسم هؤلاء العبيد الحرية الأمريكية كما بشّر بها الدستور إلا بعد الحرب الأهلية الأمريكية التي راح ضحيتها أكثر من 600 ألف قتيل عندما قرر إبراهام لينكولن، الرئيس الأمريكي الأشهر في تاريخها السياسي، إنهاء الرق في الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1863م.
ولكن ما إن وضعت الحرب أوزارها ونال العبيد حريتهم حتى وجدوا أنفسهم يواجهون تمييزاً عنصرياً بغيضاً تَجسَّد في قوانين التمييز العنصري التي أقرتها المحكمة الدستورية العليا وأصبحت قانوناً نافذاً في البلاد يمنح حكومات الولايات الحق في منع السود ارتياد أماكن البيض العامة والاختلاط معهم وكذلك حرمانهم ممارسة حقوقهم السياسية في الانتخاب والترشُّح للمناصب الحكومية.
فما كان من الأمريكان السود إلا النضال مرة أخرى مئة سنة تالية من أجل أخذ حقوقهم السياسية والاجتماعية في ثورة مدنية شهيرة في منتصف الستينيات من القرن الماضي قادها رجل الدين الأمريكي الإفريقي القس مارتن لوثر كينغ ودفع حياته ثمناً لها. ولا تزال الأقلية الأمريكية الإفريقية تناضل حتى يومنا هذا لانتزاع حقوقها المدنية والسياسية وخاصةً في ظل شعور عارم في أوساطها باستهدافها ورخص دماء أفرادها الذين طالما استهدفتهم قوات الشرطة النظامية في الولايات مما أدى إلى نشوء حركة اجتماعية تحت مسمى "حياة السود مهمة".
بالإضافة إلى تجاهل الدستور الأمريكي حقوق الأقلية السوداء الديمقراطية قرنيْن كامليْن، نجد أيضاً أن وضع النساء الأمريكيات لم يكن مثالياً كذلك إذ لم يمنح الدستور المرأة الأمريكية التي تشكل نصف المجتمع حق التصويت والانتخاب إلا في أوائل القرن العشرين وبعد نحو قرن ونصف من تأسيس الولايات المتحدة من خلال التعديل الدستوري التاسع عشر.
ديمقراطية التمثيل في الانتخابات الأمريكية
كذلك إذا نظرنا إلى الآلية الانتخابية للرئاسة الأمريكية لوجدناها غير ديمقراطية فعلاً حيث ينتخب المواطنون الأمريكيون رئيسهم انتخاباً غير مباشر عن طريق المجمع الانتخابي المكون من 538 صوتاً موزعة على الولايات المتحدة الأمريكية ومقاطعة واشنطن دي سي، كل حسب تمثيله في الكونغرس الأمريكي، ولذا يهتم المرشحون للرئاسة الأمريكية بزيارة الولايات المتأرجحة وإنفاق أموال الحملات الانتخابية فيها حتى يضمنون فوزهم في المجمع الانتخابي.
وخلال العقدين الماضيين فاز كل من جورج بوش في سنة 2000م ودونالد ترمب في سنة 2016م بالرئاسة الأمريكية من خلال فوزهم في المجمع الانتخابي رغم حصول منافسيهم على أكثر أصوات الناخبين الأمريكيين. وكان الحال كذلك في انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي الذي يعتبر المجلس الأعلى في الكونغرس الأمريكي حيث ظل الأمريكيون ينتخبون أعضاءه انتخاباً غير مباشر عن طريق مجالسهم التشريعية في الولايات حتى التعديل الدستوري السابع عشر الذي صُدِّق عليه في سنة 1913م والذي أصبح بمقتضاه انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي انتخاباً مباشراً.
وإذا نظرنا أيضاً إلى تمثيل مجلس الشيوخ الأمريكي للمجتمع الأمريكي لوجدناه غير ديمقراطي حيث يمنح كل ولاية أمريكية مقعديْن في هذا المجلس وبذلك يكون للمواطن الأمريكي الذي يعيش في ولاية صغيرة من ناحية عدد السكان مثل ولاية ديلاوير تأثير أكبر في مجلس الشيوخ من المواطن الذي يعيش في ولاية كبيرة مثل ولاية كاليفورنيا. لا شك أن مساواة الولايات الصغيرة والكبيرة في التمثيل في مجلس الشيوخ الأمريكي لها جذورها التاريخية في حفظ التوازن بين هذه الولايات المختلفة إلا أن الأمر برمته يُعدُّ قصوراً ديمقراطياً في الدستور الأمريكي.
بالإضافة إلى ما سبق، يعتقد البروفسير روبرت دال أنّ مبدأ المراجعة القضائية التي أشار إليها الدستور الأمريكي أثارت إشكالاً آخر تجاوز ما كان ينوي بعض المصممين للدستور الأمريكي تحقيقه فيما يتعلق بمبدأ فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية وإعطاء المحكمة الفدرالية العليا حق نقض القوانين، التي يجيزها الكونغرس الأمريكي ويوقع عليها الرئيس الأمريكي لتصبح قوانين سارية المفعول، إذا كانت مخالفة للدستور. وهنا يعتقد البروفسير روبرت دال أن المحكمة العليا قد تجاوزت هذا الحق في المراجعة القانونية إلى تشريع القوانين بنفسها من خلال السوابق القضائية، وهو أمر ربما لم يكن في بال مصممي الدستور حين كتابته، وهو كذلك أمر لا يبدو ديمقراطياً حقاً، إذ يمنح السلطة لتسعة أشخاص معينين غير منتخبين لتقرير الكثير من القضايا المهمة في المجتمع.
يظل الدستور والديمقراطية الأمريكية بالنسبة للبروفسير روبرت دال تجربة أمريكية خالصة غير مثالية ديمقراطياً حتى إن كثيراً من الديمقراطيات الناشئة في العالم الثالث لم تحاول الاقتداء بها ونقلها إليها. ولكن هذا لا يقدح في نجاح التجربة الديمقراطية الأمريكية في تجاوز الكثير من الصعاب والعقبات طيلة مسيرتها التي امتدت لأكثر من قرنين كاملين.
وعلى مجتمعاتنا العربية وهي تَنشُد وتتلمَّس خطاها المتعثرة نحو الديمقراطية في بعض البلدان العربية أن تدرك تمام الإدراك خصوصية ظروفها التاريخية وأوضاعها الخاصة، وألا تنقاد انقياداً أعمى نحو جلب وتطبيق تجارب الآخرين، ولعل هذا هو السر الخاص في بقاء التجربة الديمقراطية الأمريكية أكثر من قرنيْن رغم قصورها في تجسيد المثل الديمقراطية العليا، وذلك حينما رفض الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية استيراد تجربة البرلمان البريطاني خوفاً من تركيز كل السلطات السياسية في جسم سياسي واحد. جاء رفض الآباء المؤسسين للولايات المتحدة تطبيق التجربة الديمقراطية البريطانية رغم القواسم التاريخية والثقافية المشتركة بينهما.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.