تابعنا
أثار قرار المحكمة الدولية بشأن التدابير المؤقتة كثيراً من الجدل بشأنه ما بين اعتباره انتصاراً للشعب الفلسطيني، أو أنه لا ينسجم مع حجم الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة، كون المحكمة لم تأمر صراحة بوقف إطلاق النار،

أصدرت محكمة العدل الدولية قراراً هاماً بفرض تدابير مؤقتة على إسرائيل، في إطار الدعوى المقامة ضدّها من قِبل جنوب إفريقيا التي تتهمها فيها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق السكان في قطاع غزة، فيما يُجبِر قرار المحكمة تل أبيب على اتخاذ جميع الإجراءات لمنع الأفعال التي تدخل ضمن نطاق جريمة الإبادة الجماعية.

كان طلب الدعوى الذي تقدمت به جنوب إفريقيا ضد إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية المنعطف الدبلوماسي والقانوني الأبرز خلال الحرب الإسرائيلية على القطاع، مع تراجع الآمال بإمكانية وجود تدخل حاسم من مجلس الأمن باتجاه إنهاء المأساة الإنسانية في غزة، فيما أظهر الاهتمام العالمي الذي صاحب الدعوى حجم الاستقطاب والخلاف على إسرائيل، خصوصاً مع تراجع شرعيتها بسبب الانتهاكات الواسعة التي تُرتكب على مدار عقود ضد الفلسطينيين.

وأثار قرار المحكمة الدولية بشأن التدابير المؤقتة كثيراً من الجدل بشأنه ما بين اعتباره انتصاراً للشعب الفلسطيني، أو أنه لا ينسجم مع حجم الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة، كون المحكمة لم تأمر صراحة بوقف إطلاق النار، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى العناوين التالية:

ماهية التدابير المؤقتة التي تصدرها المحكمة

استناداً إلى اللائحة الداخلية لمحكمة العدل الدولية ونظامها الأساسي، فإنه يجوز لها أن تأمر بتدابير حماية مؤقتة بناءً على أحد الأطراف أو بمبادرة منها، إذا ما رأت المحكمة أن الحقوق التي تشكل موضوع الدعوى معرضة للخطر بصورة مباشرة، وبهذه التدابير فإن المحكمة تهدف إلى تجميد الوضع إلى حين الفصل في موضوع الدعوى، على أنه يمكن لها أن تراجع بناءً على طلب أحد الأطراف قرار استمرار التدابير من عدمها في أي مرحلة من مراحل الدعوى.

بصورة مختصرة، فقد رفضت المحكمة طلب إسرائيل رد الدعوى بحجة عدم الاختصاص، ورفض الاتهامات بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، إلا أنها في الوقت ذاته أقرت تدابير مؤقتة، لكنها لم تطالب إسرائيل بصورة مباشرة بتعليق عملياتها العسكرية، وهو الإجراء الأول في قائمة التدابير التي طالبت بها جنوب إفريقيا في لائحتها.

إنّ الأهمية التي تحظى بها التدابير المؤقتة تكمن في كونها تعالج مسائل طارئة، وهو ما يجعلها مقدَّمة على سواها من القضايا المعروضة على المحكمة، فيما تعقد المحكمة جلسات علنية مستعجلة لتصدر قرارها بعد ذلك في غضون شهر كما جرت العادة.

وفي هذا الصدد فإنّ عديداً من الدعاوى التي رُفعت لدى محكمة العدل الدولية تضمنت طلبات بتدابير احترازية، ومن بينها القضايا المتعلقة بانتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي كان آخرها الدعوى الحالية المقدمة من جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل.

التدابير.. بين طلبات الأطراف وقرار المحكمة

في طلبها بشأن رفع دعوى ضد إسرائيل بشأن انتهاكها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، ضمنت جنوب إفريقيا في لائحتها طلب تدابير احترازية من تسعة بنود، أبرزها إلزام إسرائيل "تعليق عملياتها العسكرية في غزة فوراً، واتخاذ جميع التدابير المعقولة لمنع جريمة الإبادة الجماعية، ووقف عمليات طرد الفلسطينيين من منازلهم، واتخاذ إجراءات لوصول المساعدات الإنسانية إلى السكان، والحفاظ على الأدلة المتعلقة بادعاءات الأعمال التي تدخل ضمن نطاق جريمة الإبادة الجماعية، وأن تقدم إسرائيل تقريراً خلال أسبوع من تاريخ صدور الأمر بشأن جميع التدابير التي اتخذتها تل أبيب امتثالاً لأوامر المحكمة"، وغيرها من التفاصيل في لائحة طلب الدعوى الخاص بجنوب إفريقيا.

تتمتع المحكمة بصلاحيات واسعة في إقرار التدابير الاحترازية، ويمكنها أن تأمر بتدابير احترازية مختلفة كلياً أو جزئياً عن التدابير المطلوبة، وهو النهج الذي جرى اتباعه في ما يتعلق بهذه الدعوى، إذ استجابت المحكمة جزئياً لطلبات جنوب إفريقيا، وزادت عليه بعض الأوامر الأخرى.

وبصورة مختصرة، فقد رفضت المحكمة طلب إسرائيل رد الدعوى بحجة عدم الاختصاص، ورفض الاتهامات بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، إلا أنها في الوقت ذاته أقرت تدابير مؤقتة، لكنها لم تطالب إسرائيل بصورة مباشرة بتعليق عملياتها العسكرية، وهو الإجراء الأول في قائمة التدابير التي طالبت بها جنوب إفريقيا في لائحتها.

وجهة نظر المحكمة

إنّ تأصيل المحكمة لإصدار التدابير الاحترازية قادها إلى الإشارة إلى انتهاكات إسرائيل لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وإن كانت قد أكدت أنها في هذه المرحلة من الدعوى ليست ملزمة التأكد من انتهاك إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، كون هذا الاستنتاج سيكون في مراحل لاحقة من الدعوى، إلا أنها في الوقت ذاته أقرت ببعض الاتهامات التي وجَّهتها جنوب إفريقيا إلى إسرائيل بشأن الممارسات الإسرائيلية أو التقصير في منع جريمة الإبادة الجماعية تندرج ضمن أحكام الاتفاقية.

إضافةً إلى ذلك فقد رأت المحكمة أن الإجراءات التي طلبتها جنوب إفريقيا تهدف إلى حماية حقوق معقولة للشعب الفلسطيني تتمثل في الحماية من الإبادة الجماعية وفقاً للاتفاقية، وهي الحقوق التي يمكن أن يؤدي المساس بها إلى أضرار لا يمكن إصلاحها، وعليه يحق لجنوب إفريقيا مطالبة إسرائيل بالتزام أحكام الاتفاقية، كما جاء في قرار المحكمة.

إنّ أهمية وجهة النظر هذه تكمن في أنها وضعت أساساً مهماً لوجود تصور بأن المحكمة تعتقد أن إسرائيل من المحتمل أنها تمارس إبادة جماعية في غزة، وعلى هذا الأساس أمرت باتخاذ تدابير مؤقتة بناءً على طلب جنوب إفريقيا واستناداً إلى صلاحيتها في إمكانية الحكم بكل أو جزء كل الطلبات.

ماذا تعني أوامر التدابير الاحترازية؟

رغم أن المحكمة لم تأمر بإلزام إسرائيل وقف عملياتها العسكرية ضد قطاع غزة كما طلبت جنوب إفريقيا، فإنّ الأوامر الأخرى حملت أهمية كبيرة على الصُّعُد المختلفة السياسية والقانونية، ومن قبل على جوهر الحرب الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة.

إنّ إعلان المحكمة الاختصاص وإصدارها أوامر بتدابير احترازية يعنيان أن إسرائيل باتت متهمة لسنوات قادمة (إلى حين الفصل في الدعوى) بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضدّ سكان قطاع غزة، وهو ما سيؤثر في صورتها وشرعيتها في الأوساط العالمية.

وتأتي الأهمية في أن المحكمة أمرت إسرائيل باتخاذ التدابير التي تمنع ارتكاب الأعمال التي تعتبر جريمة إبادة جماعية، ومنها قتل أفراد الجماعة، والتسبب لهم بضرر جسدي أو عقلي، وكذلك إخضاعهم لظروف معيشية بقصد إهلاكهم كلياً أو جزئياً، على أن تضمن إسرائيل "بشكل فوري" عدم قيام جيشها بارتكاب أي من تلك الأعمال، وهذا يتطلب تغيير طريقة عمل الجيش الإسرائيلي، عبر تخفيف حدة الحرب بصورة كبيرة، وتقليص عملياتها العسكرية، خصوصاً القصف الجوي والغزو البري الواسع، كما يجرد الأمر إسرائيل من أي شرعية في سلوكها العسكري ضد الفلسطينيين في غزة، سواء عمليات القتل المستمرة أو تشديد الحصار وإلحاق الأذى بالسكان.

كما ألزمت المحكمة إسرائيل اتخاذ تدابير فعّالة وفورية لتوفير الخدمات الأساسية للسكان والمساعدات الإنسانية، وهو ما يعني أن الصيغة التي دأبت الحكومة الإسرائيلية على تطبيقها خلال أسابيع الحرب، من خلال تقنين عمليات دخول المساعدات وحرمان سكان شمال القطاع منها، لم تعُد مقبولة وأن إسرائيل قد تجد نفسها مضطرة، ليس إلى عدم الاعتراض على دخول المساعدات عبر معبر رفح فحسب، بل إلى تسهيل دخولها بكميات كبيرة عبر معابرها مع القطاع.

ومن أهمية القرارات أيضاً أن المحكمة أمرت إسرائيل بمنع التحريض المباشر على ارتكاب الإبادة الجماعية ضد غزة والمعاقبة عليه، وبالتالي ستجد الحكومة الإسرائيلية نفسها أمام التزام لكبح حالة السعار ضد سكان قطاع غزة التي روّجت لها المنصات الإعلامية الإسرائيلية المختلفة، وهو ما يمكن أن يساعد في خفض نسبة التأييد لاستمرار الحرب في ظل غياب التحريض.

وأصبحت إسرائيل ملزمة تقديم تقرير في غضون شهر، تبيّن فيه التدابير التي اتخذتها لتنفيذ أوامر المحكمة. وإن عدم امتثال إسرائيل لتلك الأوامر سيجعلها في مواجهة أخرى مع المجتمع الدولي، كما أن المحكمة ستأخذ في عين الاعتبار سلوك إسرائيل خلال مداولاتها لاحقاً في ما يتعلق بتثبيت أو نفي الاتهام عن إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.

ومن أهمية القرار أيضاً أنّ أيّ تجاهل من قِبل إسرائيل لأوامر المحكمة سيسهم في عزلها على اعتبارها دولة مارقة، ومن المفترض أنه سيجبر دول العالم -بما فيها حلفاؤها- على القيام بمسؤولياتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، من خلال اتخاذ سلسلة تدابير تهدف إلى إرغام إسرائيل على الامتثال لقرارات المحكمة، وذلك على فرض فشل مجلس الأمن في اتخاذ خطوات ملموسة ضد إسرائيل بسبب الدعم الأمريكي.

إنّ اعتقاد المحكمة بأن من المعقول أن تكون إسرائيل قد انتهكت الاتفاقية، وبالتالي وجود أساس لاتهامها بارتكاب إبادة جماعية في غزة، سيجعل الضغوط على حلفاء إسرائيل، خصوصاً أمريكا ودول أوروبا، بشأن وقف مبيعات الأسلحة أو التعاون الاستخباري في ما يتعلق بالحرب أكثر جدوى وتأثيراً.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً