ليس من الواضح تماماً ما وراء تَحرُّك الرئيس جو بايدن لتحويل الأموال (أو نصفها) التي تحتفظ بها الولايات المتحدة نيابة عن الشعب الأفغاني إلى حساب في سويسرا، لكن لا ينبغي أن نحبس أنفاسنا دهشةً ونحن نرى إعادة هذه الأموال إلى أصحابها الشرعيين.
عندما استعادت طالبان السلطة قبل أكثر من عام، كان لدى الولايات المتحدة 7 مليارات دولار من الأموال الأفغانية. في البداية كانت الوصاية الأخلاقية التي قدمتها إدارة بايدن عند تناول هذا الموضوع ضعيفة وبالكاد مقنعة، بل إنه اقترح أنه ينبغي منحها لعائلات ضحايا 11 سبتمبر/أيلول مقابل أتعاب قانونية لمقاضاة طالبان في المحاكم الدولية.
لكن لم يدُر في ذهن الرئيس بايدن أن تستجيب عائلات الضحايا بطريقة مغايرة، إذ قالوا له أن يعطي هذا المال للشعب الأفغاني. وعلى بُعد أسابيع قليلة فقط من موعد انتخابات التجديد النصفي، يبدو أن الرئيس اعتقد أن التلويح بإعادة الأموال إلى الأفغان قد يجلب عليه رضا الناخبين المسلمين في الولايات المتحدة والتصويت لحزبه. ومن هنا تأتي خطوة تحويل نصف الأموال إلى حساب في أحد البنوك السويسرية بحيث تكون وديعة تحت إشراف مسؤولين من سويسرا والولايات المتحدة.
بطبيعة الحال، سيتساءل كثيرون عن صدق نية هذه الخطوة. بالنسبة إلى الأفغان فإن هذه الأموال ضرورية لإنعاش القطاع الصحي وصرف الرواتب. ولكن يبدو أن الرئيس بايدن لن يدع هذا الأموال تذهب بلا شروط. هذه الشروط تتمحور حول ضرورة نأي البنك المركزي في كابول بنفسه عن طالبان، واستبدال عدد من المسؤولين. هذه الشروط، مع الأخذ بعين الاعتبار قوة طالبان ونفوذها، تُعَدّ أمراً منافياً للعقل.
قد يريد بايدين أن يلعب لعبة طويلة النفس ويأمل بها تسريع تدهور البلاد، ومثل ما حدث في أواخر التسعينيات، عندما بدأت حركة طالبان في الانقسام، واندلعت حرب أهلية. في هذا السيناريو، لا شك في أن هذه الأموال ستُمنَح حينها لوكالات الإغاثة الدولية للعمل على تخفيف الفوضى وسوء التغذية. في الواقع، أعربت مجموعة من المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية مؤخراً عن مخاوفها بشأن حالة القطاع الصحي في البلاد وطالبت بالإفراج عن هذه الأموال.
ستكون حجة الرئيس بايدن الأخرى لمنع الإفراج عن الأموال، أنه مع انهيار الاقتصاد الأفغاني هناك دائماً قلق واضح من انقسام طالبان والقتال بين الفرقاء للاستحواذ على السلطة. في هذا السيناريو قد تنحاز الجماعات الإرهابية في أفغانستان إلى فصيل واحد مقابل مزيد من الحرية للعمل في البلاد، وهو ما يتعارض تماماً مع الاتفاقية الدولية التي وقّعَتها طالبان في الدوحة عام 2020.
تفاقُم المشكلة حسب الغرب يعود إلى أن طالبان، للحظة عابرة بعد تولّيها السلطة، ألمحت إلى أنها مستعدة لاتخاذ مزيد من الخطوات التصالحية في أجندتها السياسية المحلية. ولكنها على غير ما أمّل الغرب بدأت تنفّذ سياساتها الصارمة بشأن تعليم الفتيات، وغيرها من القضايا.
بالتالي فإن خطاب بايدن يمكن وضعه في سياق الرشوة تقريباً لأنه يوضح إمكانية تحويل الأموال، ولكن يجب احترام عدد من الشروط الصارمة.
إحدى وجهات النظر في هذه المعادلة أنها فرصة لطالبان لإظهار قدرتها على العمل مع الغرب. رأي آخر مفاده أن الأمريكيين يلعبون لعبة رخيصة لتأكيد الهيمنة، وإعطاء الرئيس بايدن مبادرة تعزّز صورة سياسته الخارجية التي تبدو ضعيفة وغير فعالة.
بطبيعة الحال، سيُعتقد أن المبادرة مزيفة تماماً ولها طابع شنيع لأنها تأتي في ظلّ وضع تنهار فيه البلاد، وأن الرئيس بايدين نفسه سيكون سعيداً إذا سقطت حكومة طالبان، وتوجهت أفغانستان لاحقاً لطلب المساعدة من الغرب في كل شيء، بما في ذلك المساعدة على الحكم.
المشكلة هي أن إرث أمريكا الملوث في أفغانستان قائم على الأكاذيب والخداع، وقد فقد بايدن كثيراً من ماء وجهه بسبب الانسحاب المفاجئ للقوات الأمريكية من أفغانستان. واليوم يأتي ليستخدم هذه الأموال أداةً للضغط السياسي لا كعمل إنساني.
ستكون عواقب هذا القرار الخاطئ والمنافق أن تحقّق ما تخشاه أمريكا، أيْ تقارُب الجماعات المعادية للولايات المتحدة من طالبان. ويبدو أن هذا سيكون حتميّاً لا مجرد نقطة ضعف مبهمة في السياسة الخارجية الأمريكية. لا تُعتبر أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات وحسب، بل وشاهد قبر على نزاهة السياسة الخارجية الأمريكية.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.