بدأ الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من دون أن تكون المبادرة بيد إسرائيل، بل جاء ردَّ فعل انتقاميّاً على هجوم حماس على القواعد العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية في المنطقة المعروفة بـ"غلاف غزة".
حين بدأ الهجوم بواسطة الطائرات والقصف بالقنابل عشوائياً على أهالي ومساكن قطاع غزة، لم تردّد القيادة السياسية الإسرائيلية -وخصوصاً رئيس الحكومة نتنياهو- سوى عبارة واحدة تردّدت على مدى أسبوعين: "سننتصر".
ولمّا حاول كثير من المراقبين فهم ماذا تعني هذه العبارة، وكيف يتحقق هذا النصر، بدأ يتضح في الأسبوع الثالث من الحرب على غزة بعضٌ من ملامح هذا "النصر" الذي تسعى القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية إليه، وتَلخَّص في محاولة القضاء على حماس وإعادة الأسرى الإسرائيليين من بين أيديها.
هدفا نتنياهو
لتحقيق هذين الهدفين كان لا بد من إدخال القوات البريّة الإسرائيلية إلى قطاع غزة، إذْ فهِم الجميع أنّ القصف الجوي المكثّف وقتل الآلاف وتدمير البيوت والمباني كلها أمور لن تؤدي إلى تحقيق أيّ من هذين الهدفين اللّذين وضعهما نتنياهو أمام المجتمع الإسرائيلي والعالم.
وحين دخلت القوات البرية الإسرائيلية في الأسبوع الرابع من الحرب إلى شمال قطاع غزة، كان لا بُدّ لنتنياهو من الإجابة عن مجموعة من الأسئلة لإقناع أهالي الجنود الإسرائيليين وعشرات الآلاف ممن أخلوا منازلهم، من قبيل: "ماذا بعد السيطرة العسكرية على قطاع غزة أو على شمال قطاع غزة؟ وهل يضمن هذا تحقيق الهدفين المذكورين؟".
حتّى اللحظة، لم يقدم مجلس الحرب (الكابينت المصغّر) إجابة واضحة في هذا الشأن، وليس واضحاً إن كان مجلس الحرب الإسرائيلي بقيادة نتنياهو قد بحَث هذا الأمر بعمق وجدية، وتختلف الإجابات التي يقدّمها كل واحد من أعضاء الكابينت.
كان هذا الأمر أحد الأمور الأساسية التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي في أثناء مشاركته في جلسات الكابينت الإسرائيلي، لكن لم يصدر عن هذه الجلسات إلاّ تصورات أوّلية لم تتبلور لتصوّر واقعي أو خطة واضحة المعالم.
كل التصوّرات التي تداولها نتنياهو، ووردت على لسان مستشارين أو صحفيّين مقربيين منه، مشروط بتحقيق ما سماه نتنياهو "انتصاراً"، أي القضاء على حماس عسكرياً وإقامة سلطة مدنيّة بديلة عنها في قطاع غزة، تتكون من السلطة الفلسطينية ومن دول عربية تدير قطاع غزة مدنياً، كما تكون هذه السلطة المدنية حليفة لإسرائيل وتحت كنف الدبابات الإسرائيلية التي أحضرتها إلى غزة.
هذه الفكرة لم تتبلور بعد في خطة عمل واضحة، ويكتَنفها كثير من الغموض والأسئلة، ومن أهمها: هل تقبل السلطة الفلسطينية أو مندوبون من دول عربية العمل بديلاً لحماس تحت حماية الدبابات الإسرائيلية؟
وقد فتح عدم بلورة تصوّر إسرائيلي لما بعد الحرب الباب على مصراعيه أمام أحلام اليمين الإسرائيلي المتطرف، ليطرح تصوّراته من خلال منصّات إعلامية مختلفة، وهذا اليمين المتطرف يحظى بدعم شعبي ليس هيّناً ويشكّل ركيزة هامة في حكومة نتنياهو.
وتقوم فكرته على تهيئة الظروف لإعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية داخل قطاع غزة، كما كان الأمر قبل انسحاب إسرائيل من القطاع وفرض حصار عليها كان يحدث قبل سبعة عشر عاماً.
احتلال شمال غزة
في حين لم يتشكّل بعدُ تصوّر متكامل لدى الطبقة السياسية الإسرائيلية لمستقبل غزة أمنياً ومدنياً بعد انتهاء الحرب، تداولت مراكز التفكير وأعضاء الكنيست وغيرهم من السياسيين والعسكريين السابقين الإمكانية الأكثر معقولية عند كثيرين، وتتمثل بنسخ منظومة المناطق "باء" المعمول بها في الضفة الغربية، وهي المناطق التي تخضع لإدارة مدنية للسلطة الفلسطينية ومسؤولية أمنية إسرائيلية كاملة، بحيث تستطيع القوات الإسرائيلية الدخول والخروج من قطاع غزة متى شاءت وكيفما شاءت.
لكن يواجه هذا التصوّر معارضةً من قِبل أحزاب اليمين المتطرف، وحتى من أقطاب حزب الليكود الذي يرأسه نتنياهو نفسه.
ويدّعي المعارضون لهذا التصوّر أن تطبيقه سيؤدي إلى توثيق الصلة بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ممّا قد يؤدي مستقبلاً إلى تعزيز فكرة الدولة الفلسطينية.
وممّا يتراءى أمام أعيننا في أثناء الحرب الجارية على قطاع غزة، بدأت تظهر على السطح تصوّرات يتبنّاها عديد من المحلّلين الإسرائيليين المقرّبين من نتنياهو وغيره من السياسيّين المؤثرين في المجتمع الإسرائيلي.
وينتج هذا التصوّر الحالي عن طريقة الحرب الإسرائيلية المعتمدة على سياسة إفراغ شمال قطاع غزة ومدينة غزة بالكامل من السكان، وهدم كل البيوت والمنشآت العمرانية، وتسطيح الأرض حتى وادي غزة.
استراتيجية الهدم
وتقوم الاستراتيجية العسكرية منذ دخول القوات البرية الإسرائيلية إلى شمال القطاع على هدم منهجي لكل المباني، وفتح "ممر آمن" للسكان لمغادرة منازلهم والتوجه من خلال هذا الممر خلال ساعات محدّدة نحو جنوب قطاع غزة للسّكن في الخيام والعراء.
وقد مارس الجيش الإسرائيلي هذه الاستراتيجية عام 1948 حين أخلى القرى الفلسطينية وبعض المدن من سكانها وهدمها جميعاً، ولم يعُد لمن ترك بيته مكان يعود إليه.
وبناءً على تجربة الماضي، يجري تحويل مناطق واسعة من شمال القطاع وأحياء كاملة من مدينة غزة إلى ركام، بحيث لا يستطيع أحد العودة إلى شمال قطاع غزة ومدينة غزة.
ويقترح بعض الدوائر القريبة من مراكز التأثير السياسي جعل شمال قطاع غزة "حديقة" فارغة من السكان، تعزل ما تبقّى من القطاع -جنوب وادي غزة- عن حدود إسرائيل.
أمّا الحدود الشرقية للقطاع فيُرَاد تفريغها بالكامل من السكان على عمق كيلومترين إلى ثلاثة كيلومترات، وتصبح المنطقة "المطهّرة" من السكان خطاً فاصلاً يمنع أي فلسطيني من التحرّك أو الوجود فيها.
هذه التصوّرات التي يطرحها المستشارون السياسيون والمحللون العسكريون القريبون من مراكز القرار الإسرائيلي، والعاملون في مراكز الأبحاث الأكاديمية وغير الأكاديمية التابعة رسمياً أو بشكل غير رسمي لمراكز الأبحاث القومية الإسرائيلية تشكّل تصوّرات مستقبلية لما بعد الحرب.
هذه التصوّرات يتداولها عشرات المحللين يومياً على شاشات القنوات الإسرائيلية ويكتبون آراءهم على صفحات المواقع والصحف، وفي كثير من الأحيان تشكّل محاكاةً لما يدور في الغرف المغلقة لأصحاب القرار في إسرائيل.
أمّا نتنياهو نفسه فلم يشأ حتى اليوم التعليق أو الحديث عن تصّورات ما بعد الحرب، ولا يفتأ عن ترديد جملة واحدة: "ننتصر على حماس ونحرّر المخطوفين".
لكنّ مصير قطاع غزة ما بعد الحرب يعتمد على سير المعارك ونتائجها، وليس بالضرورة على تصوّرات وأحلام القيادات الإسرائيلية التي ليس لها الحقّ في رسم وضع الإدارة المدنية والأمنية في قطاع غزة حين انتهاء الحرب.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.