استأثر بالاهتمام مقال في شهرية لوموند ديبلوماتيك الفرنسية لشهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، لمثقف مغربي مثير للجدل، يتحدر من الأسرة المالكة المغربية هو هشام بن عبد الله، حول ما أسماه بفشل طوباوية الإسلامية. فحْوى المقال هو أن الحركات السياسية ذات المرجعية الإسلامية في العالم العربي، لم تستجب للتطلعات التي رفعتها، ورضخت للبنية التكنوقراطية القائمة في بلدانها، وخضعت لإملاءات المؤسسات المالية الدولية ودخلت في اللعبة السياسية التي كانت تنتقدها وتُشهّر بها سابقاً، إذ سوَّغت الترتيبات وقبلت بالمساومات. لا شيء يميز الإسلاميين، في نهاية المطاف، يقول صاحب المقال، في تزكيتهم للوضع الذي يغذي التصدعات الجيوسياسية والنزاعات الطائفية التي تجثم على العالم العربي، أي أنهم استمرارية "لحداثة" ما بعد الاستعمار. ومن العسير والحالة هذه، يقول صاحب المقال، أن يزعم الإسلاميون الاستقلالية أو الدفع بنظرة صافية لا تشوبها شائبة.
وختم بالقول بأن ما كان يمنح القابلية لبعض الاتجاهات الإسلامية من لدن القوى الديمقراطية ومن الغرب، وهو اعتدالها أو وسطيتها. ولا يرى صاحب المقال في ذلك ميزة، بل مصدراً من مصادر المُشكل، لأنه لا يخرجها من بنية أتوقراطية، والحال أن المطلوب ليس التأرجح ما بين الاعتدال والتطرف، ولكن ما بين التنوير والجمود. وفي جميع الحالات، فالأحزاب الإسلامية المشاركة في الحكم في العالم العربي، تقع تحت طائلة المحكِّ الاقتصادي، أي مدى استجابتها لتطلعات المواطنين، وثانياً، مدى تقديمها لخطاب متناغم يخرج من دائرة التلفيق أو الممارقة (أي ما يقيم الرَّمَق) الفكرية، من خلال تمارين توفيقية تجعلها عرضة لانتقاد العلماء التقليديين والحداثيين على السواء. والنتيجة لهذه الممارقة، أو البرغماتية المفرطة، هو التناقض بين الخطاب والفعل، بل السقوط في وضع ممجوج ومفضوح وهو النفاق.
كان الفشل حليف الأحزاب الإسلامية عموماً سواء فيما يخص مدى استجابتها لتطلعات المواطنين، أو مدى تطابق الخطاب والممارسة.
قام صاحب المقال بمسح عام للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في العالم العربي والتي بلغت السلطة، أو شاركت في الحكم، ولم يتورع عن انتقادها، باستثناء حركة النهضة في تونس التي لا تلقى الحكم الصارم والقاسي من صاحب المقال. وبغض النظر عن الحكم العام الذي أجراه هشام بن عبد الله، فمسار الحركة الإسلامية في العالم العربي، في سياق ما بعد الربيع العربي يستوقف السياسي والباحث على السواء.
من دون شك، فإن مسار الأحزاب الإسلامية التي انتقلت من المعارضة إلى الحكم يضعها على المحك. كان من الجائز الحكم عليها من خلال خطابها وقد كانت في المعارضة، أما وهي في الحكم أو مشارِكة في الحكومة فإن تقييمها يتم من خلال أدائها. لم يعد الخطاب هو المهم بل الفعل، أي الاستجابة لحاجات المواطنين، أو مدى مطابقة الفعل للخطاب. كان الفشل حليفها عموماً سواء فيما يخص مدى استجابتها لتطلعات المواطنين، أو مدى مطابقة الخطاب والممارسة.
كل توظيف للدين يُفضي إلى تناقض، سواءً أكان من طرف الدولة، أو الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية.
لكل تجربة في العالم العربي طبعاً خصوصياتها وإكراهاتها ووضعها الخاص، ولذلك من العسير تعميم الحكم، بيد أن ما يقع في بلد من بلدان العالم العربي يؤثر في مسار أحزاب الحركة الإسلامية في البلدان الأخرى. الحركة الإسلامية الأردنية مثلا تريد أن تتأسى بالتجربة المغربية، أو تريد على الأصح أن يتم التعامل معها كما تعامل القصر في المغرب مع حزب العدالة والتنمية (المغربي). بمعنى أن هناك قواسم مشتركة للحركة الإسلامية ليس في الخطاب وحده أو المرجعية، بل في المسار والتجربة جعلت ممارسة الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية أمام حقائق كانت تَذهل عنها، أو تقفز عليها، من خلال خطاب أخلاقي يوم كانت في المعارضة لا يخلو من تعزير، ويُذكِّر أحياناً بأساليب محاكم التفتيش، كما هو الحال بالنسبة لحزب العدالة والتنمية المغربي لمَّا كان في المعارضة، ضد التعاطي للخمر والقمار، والاختلاط في الشواطئ، والحريات الفردية عموماً، وتقريع صحافيات بحجة أنهن يرتدين لباساً غير محتشم أو رفض الفوائد البنكية، أو منع مسابقات الجَمال. توارى ذلك الخطاب وحزب العدالة والتنمية المغربي في الحكومة وتدبير الشأن المحلي، بل تغيّر إذ أصبح قادة حزب العدالة والتنمية المغربي يدفعون بأنهم ليسوا حزباً إسلاميّاً بل حزباً ذا مرجعية إسلامية.
من المآخذ الكبرى التي تُجرى على الأحزاب ذات المرجعية الدينية، انطلاقها من نظرة طوباوية للمجتمع وللإنسان، أي الحكم عليه بما ينبغي أن يكونه.
والنتيجة هو أن كل توظيف للدين يُفضي إلى تضارب، سواءً أكان من طرف الدولة، بالنسبة للدول التي تبني شرعيتها على الدين ( المغرب، السعودية، الأردن) أو بالنسبة للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، آجلاً أم عاجلاً تُفنِّد الممارسةُ الخطاب. ومصدر هذا التضارب بنيوي، ذلك أن هناك فرقاً بين طبيعة الدين الذي ينزع إلى القيم السامية والمطلق، وبين السياسية التي تنحو نحو المصلحة والتوافق والتسوية والنسبية والقابلية للتطور. ليس هناك حيز وسط بين الفضيلة والرذيلة، وبين الصدق والرياء، وبين الخير والشر، أو بين العدل والظلم. لا يمكن الحديث بشأنها إلى حلول وسطى أو توافقية، على خلاف المصالح والرؤى والأوضاع التي يمكن أن تكون عرضة للتسويات والمساومة والتطور.
ومن دون شك فإن هذا الوعي بتمايز الحقلين هو ما حدا بحركة النهضة في تونس في مؤتمرها المنعقد في مايو/أيار 2016 إلى التمييز ما بين الدعوي والسياسي، وهو ذات الأمر الذي انتهجته حركة الإصلاح والتوحيد، الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية المغربي، من خلال الانفصال عن الحزب، وقد تطورت من التمازج إلى التمايز فالانفصال.
من المآخذ الكبرى التي تُجرى على الأحزاب ذات المرجعية الدينية، انطلاقها من نظرة طوباوية للمجتمع وللإنسان، أي الحكم عليه بما ينبغي أن يكونه. أليس أجدى أن نحكم على الإنسان بناء على ما هو عليه، أي من نوازعه الإنسانية، وضبطها من خلال القانون، عوض الحلم والوهم وخطاب الأخلاق؟ أليس من الصائب أن ننطلق من قراءة واقعية للمجتمع عوض نظرة مثالية؟ طبعاً التمايز ما بين السياسي والعقدي، لا يعني الانسلاخ عن العمق الثقافي والتاريخي لمجتمع ما. ومن دون شك فإن الدين باعتباره مستودعاً لقيم وخزاناً لذاكرة من شأنه أن يؤثر فيما يسميه الألمان برؤية العالم. فالغربي، ولو أنه انسلخ عن مسيحتيه، فهي ما تزال تطبع نظرته إلى العالم، وسلوكه نحو الآخر، بأشكال مختلفة، ويسكب القيم القديمة في قوالب جديدة.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي