من المثير حقاً في المشهد الليبي الدعم المستمر من بعض القوى الغربية للسيد خليفة حفتر؛ فقصة خليفة فيها مشاهد درامية تذكرنا بقصص كثير من الطامحين للسلطة.
فما الذي يجعل حفتر واثقاً بأن الأمم المتحدة لن تعاقبه سوى برشقه بالتنديد وطلب التوقف؟ لماذا استمر المبعوث الأممي غسان سلامة بالحديث عن الملتقى الجامع الذي كان مقرراً في منتصف أبريل وليبيا على شفا احتراب داخلي يهددها بالفشل لعقود؟ لماذا لم يذكر لا الأمين العام ولا المبعوث الأممي حفتر بالاسم في تنديده بالعمليات وطالبوا الجميع بضبط النفس؟ تلك الديباجة التي تعني أن القرار لم تتفق عليه القوى الكبرى حول الإدانة والاستنكار.
لكن هذا الموقف يؤكد أن قوى لاتزال ترى في خليفة حفتر فتى أحلامها الذي قد يحقق الاستقرار في ليبيا، ويضمن مصالح الدول الكبرى فيها. لكن في المقابل كيف يمكن تفسير الإجماع الذي حدث في مجلس الأمن في الخامس من أبريل حول التنديد بالعملية ومحاسبة المسؤول عن التصعيد؟ كل تلك الأسئلة يمكننا أن نضع ثلاث مقاربات أساسية لتفسيرها كلها تمتلك قدرة ما على التفسير لكن السياق العام قد يرجح إحداها.
المقاربة الأولى ترى بأن هذه الحرب امتداد للسياسة، فحفتر قام بهذه الحرب لتقوية موقفه من التفاوض؛ وأنه قد يحصل على إذن بذلك من دولة عربية، كما صرح بذلك وزير الداخلية الليبي فتحي باشاغا. هذه الدولة، فيما يبدو، أنها السعودية حيث ظهر حفتر مع الملك سلمان قبل أيام من إعلان الحرب على طرابلس.
يبرر هؤلاء هذا التفسير بأن هذه المواقف المتخاذلة من الأمم المتحدة، توحي بأن اتفاقاً ما جرى لتعديل الكفة قبيل الملتقى الجامع الذي لايزال الأمين العام أنطونيو غوتريش يصرٌّ عليه، وإن كان قلبه يتفطر لحرب لم يجد لها بُداً، وأن حفتر رفض أي طلب لوقف الحرب. هذا الإصرار من حفتر يؤكد اتفاقه مع بعض الدول التي تدعمه؛ ويبرر هذا الموقف كذلك الاتفاق الضمني الذي يبديه حفتر مع تيار سلفي متطرف بأن الديمقراطية مضيعة للوقت، وجمعه لكثير من هذا التيار كمقاتلين في صفه في المنطقة الشرقية، وهذا يجعل دولة كالسعودية تصر على وجود حفتر في المشهد ولو بالقوة.
الاتفاق الضمني الذي يبديه حفتر مع تيار سلفي متطرف وجمعه لكثير من هذا التيار كمقاتلين في صفه في المنطقة الشرقية يجعل دولة كالسعودية تصر على وجود حفتر في المشهد ولو بالقوة.
وفقاً لهذه المقاربة، فإن الحرب لن تكون شاملة بل إنها ستقف عند حد معين. ربما وفقاً لبيان مجلس الأمن الذي عُقد في الخامس من أبريل الجاري والذي طالب بوقف العمليات فوراً وعودة القوات إلى مواقعها السابقة.
لذا لا يمكن الحديث عن تناقض بهذا الحجم بين ما تريده السعودية -والإمارات بطبيعة الحال- والولايات المتحدة الأمريكية، وأن حرباً في شمال أفريقيا بالمقربة من أوروبا قد تكون مجالاً مفتوحاً لزعزعة الأمن في الإستراتيجية التي وُضعت منذ الحرب العالمية والتي بموجبها نشأ الحلف الأطلسي. وهذا ما يفسر قلق بريطانيا التي طالبت بانعقاد طارئ لمجلس الأمن.
لو كانت السعودية أو دولة إقليمية تريد تعزيز موقف حفتر التفاوضي لانتهى الأمر للتنديد وربما اعترضت بعض الدول عن التصويت، فمن السهل كسر الإجماع في تحالف القوى الكبرى وسوريا خير شاهد، فكثير من القرارات ضد بشار انتهت بفيتو روسي، رغم استمرار الإلحاح الأوروبي الأمريكي.
حفتر ووكلاءَهُ من الخارج لا يريدون الإطار السياسي بل يريدون إطاراً عسكرياً يختصر الوقت ويصل به للحكم عبر نصر حاسم يكسبه في معركة فاصلة.
المقاربة الثانية وهي قريبة من الأولى إلا أنها ترى أن حفتر ووكلاءَهُ من الخارج لا يريدون الإطار السياسي كمحدد لسلوك حفتر السياسي، بل يريدون إطاراً عسكرياً يختصر الوقت ويصل به للحكم عبر نصر حاسم يكسبه في معركة فاصلة مع خصومه.
وفقاً لهذه المقاربة فإن الحرب ستكون شاملة ومدمرة، وأنه من الممكن أن تتدخل الإمارات بطائراتها إذا تحصلت على نقطة انطلاق، وأن أقرب مثال لذلك هو النموذج اليمني. لكن بالطريقة ذاتها هذا لا يجيب عن السؤال: لماذا تُظهِر هذه الدول الاعتراف بشرعية حكومة الوفاق وطالبت الإمارات بمحاسبة المسؤولين؟ لَمْ يَظْهر كل هذا النفاق المنظم في سوريا أو اليمن بل كانت المواقف واضحة؛ ما الذي يضطر هذه الدول لكل هذه المراوغة، مادام بالإمكان الدعم المباشر خاصة مع ضعف وهزالة أداء المجلس الرئاسي؟
المقاربة الثالثة؛ وهي أن ما يحدث هو جزء من (النفاق المنظم) الذي يشهده العالم، وفقاً لكتاب ستيفين كارسنر أستاذ العلاقات الدولية في ستانفورد بهذا العنوان، وهو أن السيادة والشرعية لها شقان؛ الأول يتعلق بالاعتراف الدولي والثاني يرتبط بقدرة الحاكم على السيطرة داخل المجتمع.
والمجتمع الدولي لا يرى في حكومة الوفاق القدرة على التنظيم والسيطرة، وأن فرنسا ترى بأن هناك فرصة للسيطرة على شمال أفريقيا ومن بين ذلك ليبيا؛ وأن هذه العملية الأخيرة جاءت من فرنسا لتنأى بنفسها عن شركائها؛ خاصة بعد أحداث الجزائر، لذا فإني وإن كنت أرفض هذه المقاربة في أكثر من لقاء تلفزيوني أو مقال مكتوب إلا أن ثمة معلومات مؤكدة عن وجود غرفة عمليات فرنسية في مدينة غريان التي ابتدأ حفتر منها عملياته.
المجتمع الدولي لا يرى في حكومة الوفاق القدرة على التنظيم والسيطرة.
وهذا ممكن لأن أحداث الجزائر ربما قد وضعت فرنسا تحت ضغط كبير قد لا تحتمله العمليات التفاوضية للأمم المتحدة، فسارعت بخطواتها لتتفرغ للشأن الجزائري؛ وهذا يفسر التناقض الذي دفع بريطانيا لعقد اجتماع مغلق طارئ في مجلس الأمن، ويفسر كذلك محاولة التستر على هذا الدعم الفرنسي لهذه العملية، لذا لم يدِن مجلس الأمن حفتر مباشرة، بل كانت صيغة تفاوضية وهي أن يدعو القرار الجميع لوقف العنف، ويفسر الشكوك حول موقف البعثة التي يبدو أنها تدرك أن هناك معادلة جديدة يجب أن تنشأ في ليبيا بنصر خاطف يحققه حفتر في طرابلس بعدها يمكن الاستمرار في خطة البعثة بعد ضمان حكم أوتوقراطي يناسب تصورات المجتمع الدولي عن المنطقة، وأن السيطرة أهم من الشرعية الدولية.
هذا النفاق المنظم يقتضي أن مصالحنا أهم من كل القوانين والشرعيات حتى وإن جاءت بتوافق بين الليبيين وبشهادة العالم كما حدث في الصخيرات. المسألة لا بتحسين ظروف التفاوض كما هي المقاربة الأولى، ولا ترتبط بالرغبة في الحسم العسكري ضمن مشروع الثورة المضادة؛ بل بموقف طارئ رأت فرنسا معه مصالحها في خطر، ووافق مصالح السعودية والإمارات التي لا تريد أن تخالف الولايات المتحدة في موقفها، فلجأ الجميع إلى النفاق المنظم حين صارت قلوبهم مع السراج وسيوفهم وأموالهم مع حفتر، حتى يحقق كل مصالحه في عودة شعوب المنطقة لسلطة وليِّ الأمرِ المتغلب، واستعجلت فرنسا بالأمر حتى يمكنها أن تتفرغ لمستعمرتها القديمة في الجزائر.
هذه المقاربة قد تكون الأقرب للصواب؛ فالمسألة لا تتعلق بالمواقف التي قد تبدو متقاربة، بل ببنية النظام الدولي الذي يصعب تفسيره أصلاً وفقاً للتصريحات والقوانين، أو قل بقوى عظمى تقدم الواقعية السياسية على كل شيء؛ تنخرها شبكات من المصالح يمكن من خلالها أن تجعل تصريحاتها وبياناتها مجرد حبر على ورق؛ وأن شرعية أية حكومة قائمة لا يمكن الوقوف معها إذا تعرضت مصالحها للخطر، وأنها تقف مع القوة مهما كان الحق ظاهراً وشرعياً معترف به دولياً..حقاً إنه النفاق المنظم!
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.