ماذا نتوقع من هذا العام الجديد؟ ليس كثيراً، وفقاً لاستطلاع أجرته شركة Ipsos يُظهِر أن متوسط التفاؤل العالمي بلغ نسبة 65%، بانخفاض 12 نقطة عن العام السابق. ظاهرياً، هذا ليس مفاجئاً بالنظر إلى القصص المتلاحقة حول فيروس كورونا، والصراعات، والمناخ، والكوارث، والقسوة.
ولكن لماذا تختلف المشاعر القومية إلى هذا الحدّ؟ البرازيليون هم الأكثر إيجابية بنسبة 85 في المئة، واليابانيون هم الأقل بنسبة 36 في المئة. إن الآسيويين وسكان الشرق الأوسط هم الأكثر تفاؤلاً، والأمريكيون وجنوب إفريقيا يميلون إلى البهجة، فيما الأوروبيون على وشك الكآبة. تشير المقارنات إلى أن التركيبة الثقافية للأمة لها التأثير الأكبر على مزاجها، مهما حدث.
التقدم الإنساني
إذاً، إذا كانت الإيجابية مسألة عقلية، فهل يمكننا تعزيزها باتباع نظام من القصص المختلفة حول التقدم الملحوظ للإنسانية الجماعية؟ للبدء، رحّبنا للتو ببلوغ عدد سكان الأرض 8 مليارات. من المتوقع أن يكون عدد المواليد 130 مليوناً هذا العام ومن بينهم عباقرة مثل أينشتاين وبيتهوفن، أو مانديلا، أو إيلون ماسك، أو ميسي… لكي يلهمونا، ويستفزّونا، ويُسعِدونا.
إذا كنت قلقاً بشأن الضغط السكاني، فلا تخَف؛ معدلات النمو آخذة في الانخفاض حتى مع أننا نعيش أطول؛ المتوسط العالمي 73 سنة. وهذا سبب للاحتفال، إذ تضيف الأبحاث الطبية والتغيرات السلوكية إلى سنوات العمر حياة. مع تقدمنا في السن بشكل أكثر صحة في الجسد والعقل، فإن خبرتنا الأكبر تثري المجتمع.
تَقدُّم البشرية كان يجري على قدم وساق. منذ الألفية، انخفض معدل وفيات الرضع إلى النصف أي إلى 27 حالة وفاة لكل ألف مولود حيّ، وانخفضت نسبة وفيات الأمهات بنسبة 40 في المئة أي إلى 154 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة حية. تتجاوز تغطية التلقيح الأساسي للأطفال 80 في المئة، وقُدّ نحو 25 لقاحاً جديداً للحالات التي يمكن الوقاية منها. كل طفل تقريباً الآن يذهب إلى المدرسة الابتدائية، وتقترب نسبة معرفة القراءة والكتابة العالمية من 90 في المئة. لأول مرة في التاريخ، يمكن لكل إنسان أن يبدأ حياته مع إمكانية تحقيق أفضل ما لديه في ظروفه الخاصة.
يواصل العالم إنتاج ما يكفي من الغذاء، لأن المزارعين المغامرين يتأقلمون مع الظروف المتغيرة بأنواع جديدة من البذور، ومدخلات زراعية أكثر كفاءة، وإدارة أفضل للتربة والمياه، وتغييرات مجتمعية لتنويع وجباتنا الغذائية، بذكاء يقلّل نسبة الهدر.
نحن نواجه أزمة المناخ من خلال تخفيف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وإنتاج الطاقة المتجددة من خلال التوربينات من المتوقع أن يضاعف القدرة العالمية على مدى السنوات الخمس المقبلة. جهود لا حصر لها في مجال كفاءة الطاقة جارية على قدم وساق، وبينما من غير المرجح أن نُبقي الاحتباس الحراري العالمي أقلّ من 1.5 درجة مئوية، فإن التنبؤات بحدوث كارثة مُبالَغ فيها. ويرجع ذلك إلى أن العالم يتكيف مع الظواهر الجوية المتطرفة من خلال تدفُّق الموارد على بنية تحتية أفضل وتحسين الإنذار المبكّر والاستجابة للكوارث بشكل أكثر كفاءة والتعافي بشكل أسرع.
على مدار القرن الماضي، فقد ملايينُ أرواحهم في الكوارث، ولكن على الرغم من تواترها وشراستها المتزايدة، انخفض معدل الوفيات إلى نحو 45000 سنوياً. قد لا نوقف الكوارث، لكننا أكثر قدرة على حماية حياة الناس وسبل عيشهم.
أصبحت ترتيبات السكن لدينا مضغوطة للغاية. يعيش 56 في المئة منا في مناطق حضرية، وسترتفع هذه النسبة إلى 68 في المئة بحلول عام 2050. تشمل الفوائد من ذلك خفض البصمة الكربونية للفرد وتسهيل تقديم الخدمات. يولّد الابتكار في مدننا الديناميكية معظم ناتجنا المحلي الإجمالي. إن تحسين جودة الحياة الحضرية يحفز الصناعات الجديدة. التحضر يعني مناطق ريفية أكثر خضرة للترفيه والتنوع البيولوجي وتخفيف حدة المناخ.
يُعرَف عن البشر أنهم مخلوقات مهاجرة. قد تكون هذه هي نعمة لإنقاذنا، لأن لدينا ذلك الحسّ للهرب من الصدمات أو الأزمات أو الفقر، لنزدهر في مكان آخر. يحوّل 280 مليون مهاجر في جميع أنحاء العالم -واحد من كل 30 منا- أكثر من 700 مليار دولار أمريكي سنوياً إلى أوطانهم لمساعدة أحبائهم أو الاستثمار في الأعمال التجارية.
الاتصالات تُحدِث ثورة في جميع القطاعات. يمكن لثلثَي العالم الوصول إلى الإنترنت بمتوسط سرعة متزايد بسرعة 67 ميغابت في الثانية. يمتلك 83 في المئة منهم هاتفاً ذكيّاً يتمتع بمتوسط سعر عالمي يبلغ 3.24 دولار أمريكي لكل غيغا بايت، وهو يتناقص بسرعة، وأرخصها هو الهند بسعر 0.09 دولار أمريكي.
التطورات المذهلة في العلوم والتكنولوجيا تمسّ جميع أشكال الحياة. الأهمّ، الذكاء الصناعي وتحليلات البيانات الضخمة وعلم الجينوم، يتنبأ بالمخاطر البيئية والشخصية بسهولة أكبر، ويستهدف الفئات الضعيفة بشكل أكثر دقة، ويصمّم اللقاحات والأدوية والعلاجات الشخصية للظروف المميتة سابقاً. نرى ذلك مع Covid-19 وسرطان الثدي، على سبيل المثال.
يمكننا أن نفعل كل هذا لأن العالم أصبح أكثر ثراءً. على الرغم من عديد من الأزمات، بلغ إجمالي الناتج المحلي العالمي من حيث تعادل القوة الشرائية 150 تريليون دولار أمريكي. هذا هو أعلى بنسبة 50 في المئة مما كان عليه قبل عقد من الزمان. على الرغم من تزايد التفاوتات، فإن الأرقام المطلقة تحت خط الفقر البالغ 2.15 دولار في اليوم تتناقص بمقدار 130 ألف شخص كل يوم. انتُشل أكثر من مليار شخص من الفقر منذ عام 1990، على الرغم من تضاعف عدد السكان.
وفي الأعمال الخيّرة حدّث ولا حرج؛ لم يسبق للعالم أن كان متجاوباً كما كان في عام 2022 عندما تلقت النداءات الإنسانية للأمم المتحدة 24.1 مليار دولار أمريكي، أي خمسة أضعاف ما كان عليه قبل عقد من الزمن. كما توسعت الأعمال الخيرية الخاصة والعطاء الشخصي وشبكات الأمان الاجتماعي الوطنية. بالطبع يرجع جزء من ذلك إلى تزايد الاحتياجات كثيراً مع تضاعف الكوارث حول العالم. لكننا تحسنَّا أيضاً في إدراج الأشخاص الذين تم استُبعدوا أو نُسُةل سابقاً في جهود الاستجابة التقليدية للأزمات.
التحديات كفرص
مع ذلك، لا يمكننا أن نشعر بالرضا عن النفس؛ نحن بطيئون للغاية في إدراك أن الثروة لن تحلّ جميع المشكلات إذا استمرت التفاوتات في التفاقم، ولا تُعتبر الصدقة بديلاً من كرامة الإنسان وشبعه.
غطرستنا هي هلاكنا، عاد Covid-19 بالانتقام إلى مسقط رأسه في الصين، من المحتمَل تفشِّي الأمراض الأخرى جنباً إلى جنب مع العواقب الجانبية للعيش الجيد مثل الخرف ومقاومة مضادات الميكروبات والأمراض غير المعدية. إن الآثار المتفاقمة لتغيُّر المناخ في طريقها للتوسع والانتشار، وكذلك التقدم في ما يتعلق بالفقر والأمن الغذائي وتعثر التنمية.
مع ذلك فإن هذه المشكلات قد أثبتت التجربةُ عندنا بالفعل أن لها حلولاً، ويجب أن نكون حازمين في تطبيقها على نطاق أوسع. نحن محظوظون بوفرة من الثروات والقدرات لدرجة أنه يمكننا حتى تَحمُّل الجهد العلمي لإحباط الفرصة البعيدة للغاية للانقراض الأرضي بفعل اصطدام كويكب.
الأمر الأكثر إثارة للقلق أننا نعيش أكثر الفترات دموية منذ الحرب العالمية الثانية. يبدو أن عديداً من النزاعات المسلحة البالغ عددها 130 نزاعاً، لا نهاية لها ويصاحبها انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان. جعلت التطورات التكنولوجية القتال أكثر دقة وأكثر أماناً للجنود، ولكنها فاقمت محنة المدنيين.
الأمل في التغيير
لكن الناس يقولون: "كفى، لقد بلغ السيل الزُّبى"، وغضبهم هذا يولّد الأمل في الإصلاح والتجديد. مثل النساء الأفغانيات يكافحن من أجل حقوقهن التعليمية، أو تحريض الأمريكيين ضد العنصرية والأوكرانيين ضد العدوان الروسي.
تعني عودة الجغرافيا السياسية أن القواعد السابقة التي توجّه العلاقات بين الدول والتعاون متعدد الأطراف تواجه تحديات كبيرة. يتشكك الأفارقة في شرعية مجلس الأمن القديم التابع للأمم المتحدة للضغط من أجل حوكمة عالمية أكثر تمثيلاً.
يطالب النشطاء المدنيون بمحاسبة القلة الذين يخدمون مصالحهم الذاتية. إنهم يبثّون حياة جديدة في المؤسسات والمحاكم واللجان المشلولة المكلفة دعم المعايير والحقوق العالمية. النقاد المبدعون يعيدون تشكيل العولمة لأن النسخة الحالية خذلتنا مراراً وتكراراً.
هذه هي آلام الولادة المضطربة لنظام عالمي أفضل. أظهر استطلاع إبسوس أنه على الرغم من المشكلات التي لا تُحصَى التي تسببت في إضعاف المزاج العالمي، فإن الناس في كل مكان أكثر تفاؤلاً من 15 إلى 20 نقطة بشأن آفاقهم الشخصية مقارنة ببلدانهم. ربما لأنهم يمتلكون زمام المبادرة الشخصية استباقياً أكثر من ذي قبل. يبدو الأمر كأنهم يدركون ضرورة تغيير العالم، إلى عالم أكثر أمناً وعدلاً.
وهنا يكمن أعظم أمل لنا مع دخولنا عام 2023.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.