تتوالى الانقلابات العسكرية في القارة السمراء تباعاً وبشكل متسارع، آخرها في النيجر، ولم يمضِ سوى شهرٍ واحدٍ حتى أصابت بعدها الغابون، ومن قبل مالي وبوركينا فاسو.
فقد دخلت القارة في دوامات وصراعات الانقلابات، وسط تساؤلات عن أسبابها ومآلاتها، هل تأتي بعدوى الانقلابات وتصاعد أصوات التحرر من المستعمر، ولا سيما الرأي العام الشعبي؟ أم إنّها بدعم خارجي وبتدخل روسي متزايد، بات جليّاً في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها الجيوسياسية؟
يبدو من الواضح انحسار النفوذ الفرنسي في إفريقيا مؤخراً بعد عقود من استقلالها، وبشكل خاص في غرب إفريقيا، إذ تنامى وارتفع مستوى العداء على مختلف الصعد داخل عديد من دول القارة للخروج من العباءة الفرنسية ولو جزئياً، جاء ذلك جراء السياسة الاستعلائية الفرنسية ونظرتها الأبوية وممارسات أخرى.
استعمار اقتصادي للقارة
يمتدّ النفوذ الفرنسي في القارة الإفريقية لأكثر من قرن ونصف القرن، إذ تتحكم فرنسا منذ عقود في الموارد الطبيعية والاقتصادات الإفريقية، من خلال وجودها السياسي والعسكري والاقتصادي، فالنظام الاقتصادي الفرنسي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمنظومة السياسية في إفريقيا، إذ إنّ فرنسا بشكل أو بآخر هي من تحدد من سيكون حاكماً تحت طوعها، ومن هنا تأتي المنفعة الاقتصادية، والتحكّم بالثروات، بل التوجه لمفهوم الاستعمار الجديد بشكل غير مباشر.
1- سياسياً وعسكرياً: حماية عسكرية مقابل الاستغلال للموارد والثروات، بنيت هندسة الاستعمار الفرنسي بوضع اتفاقيات بينها وبين إفريقيا على أساس الحماية العسكرية، مقابل رهن إشارات فرنسا لاستغلال الثروات، التي أصبحت حالياً محل تهديد كبير على الاقتصاد الفرنسي.
2- مالياً: إذ إنّ كل الاحتياطات النقدية لمعظم تلك الدول تحت رهن الجانب الفرنسي، بل تشارك في مجالس إدارة بنوكها المركزية، كما أنشأت فرنسا عملة موحدة CFA فرانك في 1945، إذ إنّ فرنسا تسيطر على الأنظمة المالية من خلال نظام نقدي تفرضه، بأن يلتزم الجانب الإفريقي بإيداع 50% من احتياطاتها من النقد الأجنبي في فرنسا، وبسعر فائدة أقل.
3- اقتصادياً: الموارد الطبيعية ووفرتها في دول إفريقية توجد بها فرنسا.
النيجر واليورانيوم
اليورانيوم هو عنصر أساسي في إنتاج الطاقة النووية، الذي تمتلك النيجر منه احتياطياتٍ استراتيجية كبيرة، فمصدر الطاقة الأساسية في فرنسا يأتي من محطاتها النووية، وهو مسؤول عن توليد نحو 70% من كهرباء فرنسا.
وتعدّ النيجر أحدث الدول في عواصف الانقلابات؛ فهي سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم، وتأتي أهمية اليورانيوم بأنّه يستخدم في إنتاج القنابل النووية والعلاج الإشعاعي وغيرهما.
وعلى صعيد متصل ذكرت رويترز في تقرير سابق حول اليورانيوم ومناجم اليورانيوم في النيجر، بأنّها راجعت وثائق تكشف بأنّ مناجم شركة "أريفا" التابعة لفرنسا لا تدفع أي رسوم تصدير على اليورانيوم ولا الضرائب ولا المعدات المستخدمة في عملية التعدين، لكنها تدفع رسوماً فقط بنحو 5.5% فقط، ما يعبّر بشكل فاضح عن الممارسات الاستعمارية.
الغابون والنفط
ولا تقل الغابون أهميّة عن النيجر لكونها واحدةً من أكبر منتجي النفط في قارة إفريقيا، ومصدراً رئيساً للبلاد، وضمن أكبر منتجي المنغنيز عالمياً، وتملك احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي، وكذلك الذهب والماس.
والنفط الذي تتمتع به "الغابون" يجعلها واحدة من أغنى دول إفريقيا على أساس نصيب الفرد، وهي عضو في مجموعة أوبك، إلا أنّ أغلب شعبها يعيشون في فقر مدقع، هذا ما يدعو تلك الدول في الأساس إلى استغلالها ونهب ثرواتها بطريقة أو بأخرى.
تنتج دولة الغابون نحو 8.5 مليون طن من خام المنغنيز بنحو (14%) من الإمدادات العالمية، منها 7.5 مليون طن من شركة إيراميت ومليون طن من منتجين آخرين.
وقال نيكولا مونتيل، المحلل لدى بورتزامبارك التابعة لبنك بي إن بي باريبا، إنّه من غير المرجح أن تنسحب المجموعة من الغابون تماماً، فالتكاليف هي من بين أدنى المعدلات في العالم. بحسب رويترز.
فأنشطةُ التعدين التي تقوم بها شركة إيرميت في الغابون تجعلها أكبر منتج في العالم لخامِ المنغنيز عالي الجودة لصناعة الصلب، الذي يعد رابع أكثر المعادن استخداماً في العالم بعد الحديد والألمنيوم والنحاس.
كعكة إفريقيا.. مطمح دولي
وتعتبر القارة الإفريقية من أكبر قارات العالم، بمساحة نحو 30 مليون كيلومتر مربع، وتحوي العديد من الثروات والموارد الطبيعية الضخمة غير المستثمرة بالشكل المثالي في معظمها، إذ تأتي مكانتها وأهميتها من ذلك.
وتتوجّه أصابع الاتهام إلى روسيا بدعم العديد من الانقلابات في القارة السمراء، التي لا تزال في تزايد وآخرها الغابون، والتي تعتبر منتجاً مهماً للنفط والمنغنيز، ويعتبر الأخير مادة مهمة لصناعة الصلب، لذا فعين روسيا على ثلاثة قطاعات اقتصادية مهمة، وهي المحروقات والتعدين والطاقة النووية وقطاع الأمن والتسليح.
وتحاول موسكو أن تقيم عالماً متعدد الأقطاب، وتنفتح على القارة السمراء، وسط الضغوط والعقوبات الغربية تجاه الدب الروسي، على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، الذي أكدّه بوتين في القمة الروسية الإفريقية في سان بطرسبرج، وفق ما سمّاه تحقيق المصلحة للجميع والشراكة المتساوية، التي دللت على ذلك بإعلان الرئيس بوتين قبيل القمة الأخيرة بأنّ بلاده "ستقدّم الحبوب مجاناً إلى 6 دول إفريقية خلال 3 أو 4 أشهر، وعزم روسيا فتح عدد من المؤسسات التعليمية الروسية في إفريقيا، بحسب موقع "روسيا اليوم".
وتوجد الشركات الروسية في قطاع المحروقات بالعديد من دول في إفريقيا، مثل (روسنفت في مصر، وغازبروم في الجزائر وليبيا)، وكذلك في جنوب الصحراء الكبرى، وتعد شركة "لوك أويل" هي الأكثر نشاطاً بين الشركات الروسية، إذ توجد في غانا والكاميرون والكونغو الديمقراطية ونيجيريا.
وفي قطاع التعدين والمعادن تنشط الشركات الروسية أيضاً بشكل كبير، ومنها شركة روسال لخام البوكسيت في غينيا، و"نورد جولد" كذلك للذهب في غينيا وبوركينا فاسو، وشركة فاي هولدينج للبلاتين في زيمبابوي، وشركة "ألوروسا" للألماس في أنغولا، وشركة "رينوفا" للمنغنيز في جنوب إفريقيا.
وأما الصين فهي أكبر الشركاء التجاريين والاقتصاديين للقارة السمراء، إذ وصلت أرقام حجم التبادلات التجارية إلى 282 مليار دولار بنهاية 2022، وتسعى بكين لزيادة حجم الواردات الإفريقية سنوياً إلى 300 مليار دولار، حسب تصريح رئيس الدولة في وقت سابق، وتأتي أبرز استثمارات الصين الشريك الأكبر للقارة السمراء في مشروعات البنية التحتية والتعدين كذلك.
وعلى صعيد متصل فإنّ اليورانيوم لم يعد يشكّل القضية الاقتصادية الأكثر أهمية للنيجر منذ اكتشاف احتياطيات نفطية ضخمة، إذ يُستخرج من شركة البترول الوطنية الصينية، ويُنقل عبر الأنابيب إلى مدينة زيندر الواقعة في الجزء الجنوبي الأوسط من النيجر من أجل تكريره.
وأصبحت النيجر منتجاً للنفط في عام 2011، عندما بدأ إنتاج حقل أغاديم النفطي، وهو مشروع مشترك بين الحكومة وشركة "بترو تشاينا" الصينية، هذه أسباب تكفي لجعل الصين الشريك الاستراتيجي لحكومة النيجر في تنمية مواردها النفطية.
خسائر فرنسا من انحسار نفوذها
مستقبل فرنسا في عديد من دول إفريقيا على شفا حفرة من الانحسار والأفول، عسكرياً وسياسياً وبالتبعية اقتصادياً، في ظل توالي انقلابات إفريقية عدّة، وبشكل متسارع غير مسبوق.
وتراجعت اللغة الفرنسية والفرانكفونية في إفريقيا بشكل عام، مع التحوّل نحو الإنجليزية، الذي بدأ في عدة دول إفريقية، لتخسر فرنسا دورها الجيوسياسي على المستوى العالمي، وستتأثر بشكل كبير بلا شك.
ومن تبعات انحسار النفوذ؛ مؤخراً في الغابون قررت وقف إحدى شركات التعدين الفرنسية " إيرميت" عملياتها، إذ عانت خسائر فادحة في سوق الأسهم بعد هذا القرار، مشيرة إلى أنّ استخراج المنغنيز في البلاد سيُستأنف لاحقاً، بحسب رويترز.
وهنالك تخوّف من وقف إمدادات اليورانيوم للجانب الفرنسي، الذي سيؤثر بدوره في أمن الطاقة الفرنسي، كذلك ففرنسا لديها مخزون يكفي على المدى القريب، وإلى الآن لم يعلن أي تطورات تخصّ هذا الشأن بشكل رسمي، غير أنّه انتشرت أخبار في وسائل إعلامية بأنّ النيجر أوقفت الإمدادات، بينما حاولت رويترز تقصّي ذلك بدورها بسؤال المجلس العسكري الجديد، إلا أنّه رفض التعليق على ذلك.
أخيراً نخلص إلى أنّ العلاقة بين فرنسا وإفريقيا ليست حديثة العهد، بل تمتد إلى عقود، لذا لن يسهل القول إنّ إفريقيا ستتنصل من فرنسا بين عشيّة وضحاها، إذ تنخرط فرنسا مجتمعياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً ومالياً، بل إنّ الأمر سيستغرق وقتاً، يعتمد بشكل رئيس على التطورات الجيوسياسية إقليمياً وعالمياً، إضافة إلى مدى نجاح الشركاء الجدد للدول الإفريقية في أن تحلَّ محلها.
فلا بدّ لفرنسا من إيجاد شركاء جدد في إفريقيا وغيرها، كما صرّح "ماكرون" مؤخراً، هذا بعد انحسار نفوذها وخفوته في دول غرب إفريقيا تحديداً وإفريقيا بشكل عام، كذلك بأن تغيّر من سياساتها واستراتيجياتها التي قد تكون متأخرةً بعض الشيء، بما يلبي طموحها السياسي والاقتصادي، وحتى تجد بديلاً للخسائر الاقتصادية التي منيت بها مؤخراً، ولكن بشكل ملحّ وسريع، إذ إنّه في غياب حل عاجل، سيؤدي بالتبعية لاستكمال تأثير نظرية الدومينو، لتصبح كل البلدان التي لها نفوذ فرنسي بلداناً مناوئة، بل في صفِّ قوى أخرى لم تقع فيما وقعت فيه فرنسا على مرّ العقود.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.