تابعنا
نعرّج في هذا المقال على ملامح العلاقة الصينية-الأوروبية والأُطر التي تحكم الشراكة الاقتصادية بينهما في عالم يموج بالتغيرات الجيوسياسية.

"معاً بدلاً من أن نكون فرادى"، هكذا استهلَّت المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل لقاءها طلاب جامعة ووهان الصينية خلال زيارتها التاريخية للصين في سبتمبر/أيلول من عام 2019، أي قبل حرب روسيا على أوكرانيا.

طرحت ميركل خلال زيارتها مقاربة أوروبية تعتمد على التكامل مع الصين باعتبارها أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، إذ تجاوزت التدفقات التجارية الثنائية 800 مليار يورو.

وكانت حرب التعريفة الجمركية بين الصين والولايات المتحدة في أوْجِها، غير أنَّ ذلك لم يمنع المستشارة الألمانية من توقيع 11 اتفاقية تعاون مع بكين على قاعدة النظر إلى المستقبل وتوطيد دعائم حرية السوق العالمية بالصورة التي تحافظ على اندماج الصين وانفتاحها دون مخاطر المواجهة.

ونعرّج في هذا المقال على ملامح العلاقة الصينية-الأوروبية والأُطر التي تحكم الشراكة الاقتصادية بينهما في عالم يموج بالتغيرات الجيوسياسية وتهيمن عليه إرهاصات التعددية التي قد تضع أوروبا أمام خيارين: الاصطفاف مع واشنطن في احتواء أو مواجهة الصين وإن كان مستقبلاً، أو البقاء على عهدها بالشراكة الاستثنائية مع الصين أكبر شريك تجاري لها.

رسائل وتصريحات متناقضة

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين زارا الصين مطلع أبريل/نيسان الماضي، ورافق ماكرون وفد مؤلف من 60 من الرؤساء التنفيذيين للشركات الفرنسية، وأخذت الزيارة -وفق الصحافة الفرنسية- طابع التجارة والأعمال دون التطرق إلى القضايا الجيوسياسية باعتبارها محدداً أساسياً في العلاقة بين الصين والغرب بشكل عامّ.

ولم يكَد يمرّ وقت على الزيارة حتى أفصحت تصريحات ماكرون ورئيسة المفوضية الأوروبية عن تناقض مقصود أو غير مقصود في النظر إلى مآل العلاقة مع الصين. بالنسبة إلى ماكرون فإنّ الشراكة التجارية مع الصين يمكن أن تنجح مع تأكيد تعويل أوروبي على دور صيني في إقناع روسيا بـ"العودة إلى رشدها" في ما يخص حربها على أوكرانيا. وعلى النقيض، ظهرت رئيسة المفوضية الأوروبية كأنّها الشرطي الحانق بتحذيرها الصين من "مخاطر التحدي" ولعب دور داعم لروسيا في حربها، وذهبت للبناء على ذلك بالقول إنّ دول الاتحاد تتشارك المخاوف من المخاطر التي قد يسببها الاعتماد الخالص على الصين في التجارة، خصوصاً في التكنولوجيا المتطورة، وأنّها تسعى لتحييد ذلك فيما لا يمكنها تجاهل التحديات الجيوسياسية الراهنة.

وظهر من تعامل الرئيس الصيني مع الموقفَين المتناقضَين للزائرَين أنّه يعتمد نهجاً أكثر واقعية في الإيمان بنشوء مرحلة جديدة في العلاقة مع أوروبا والعالم. شي جين بينغ وصف العلاقة مع أوروبا والغرب عموماً بأنّها "تتجه لمواجهة محصلتها صفر"، مؤكداً أهمية الشراكة مع دول الاتحاد بالنسبة إلى بلاده التي تعتبر السوق الأوروبية رئيسية لبضائعها وتجارتها.

وبحسابات الاقتصاد فإنّ لأوروبا فرصة حقيقية في استثمار الضغوط التي فرضتها حرب روسيا على أوكرانيا وتداعياتها في جمع كلمة دول الاتحاد من أجل اعتماد ميزانية إستراتيجية ترتكز على دعم الصناعات الإستراتيجية وفرض قيود أكبر على واردات الاتحاد من الصين، خصوصاً في الصناعات الواعدة التي تتطلع بكين لتكون رقماً صعباً في سوقها كصناعة السيارات.

الصراع الجيوسياسي وخلط الأوراق

وبعكس المحاولة الفرنسية لتأطير زيارة ماكرون على أنّها زيارة أعمال وتجارة رغم كونها زيارة دولة من النوع الرفيع دبلوماسياً، فإنّ الصين تدرك التحديات المحدقة بعلاقتها المستقبلية مع دول الاتحاد بوصفها تكتلاً. وفي الشهر التالي على زيارة ماكرون ورئيسة المفوضية الأوروبية للصين زار نائب الرئيس الصيني هان تشنغ البرتغال وهولندا، بالتزامن مع إجراء وزير الخارجية تشين غانغ محادثات في فرنسا وألمانيا والنرويج، بما يعكس رغبة الصين الواضحة في تعزيز التعاون مع الاتحاد الأوروبي.

لكن زيارة المسؤولين الصينيين لم يكن الاقتصاد عنوانها بالدرجة الأولى، وإنْ مثَّلت فرصة حقيقية لمحاولة بناء أرضية مشتركة بين الطرفين، واصطدمت لقاءات المسؤولين الصينيين بمطالبة بروكسل المتكررة بإدانة بكين حرب روسيا في أوكرانيا، وفرض عقوبات على الشركات الصينية المشتبه في تقديمها مساعدات عسكرية لموسكو.

وكان لافتاً زيارة وزير الخارجية الصيني المنطقة التي انعقد فيها مؤتمر بوتسدام عام 1945، وانتقاده سياسة الولايات المتحدة، مشيراً إلى أنّ "واشنطن تدّعي تأييد تعزيز النظام العالمي لكنها تتصرف عكس ذلك بعد إلغاء إعلان بوتسدام، الذي صاغته بنفسها".

وضمَّ إعلان بوتسدام الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، ممثلة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، وناقش مرحلة ما بعد الحرب، وخصوصاً ما تعلق بمحاكمة مجرمي الحرب ودفع تعويضات للضحايا، إلى جانب إعادة إعمار أوروبا.

وكأنّ الوزير الصيني أراد أن يؤكد الدور المهم للشراكة الإستراتيجية لعالم متعدد الأقطاب في مقاربة تحاول الصين دائماً التركيز عليها في مخاطبة أوروبا باعتبارها أرضاً محايدة بين متصارعين.

وهنا يكمن التحدي الأساسي للطرفين في بناء العلاقة بينهما، فلا يمكن تصوّر أنّ العلاقة بين الصين والاتحاد الأوروبي لن تمرّ بالجارة روسيا التي اختارت بكين على الأقل في الوقت الراهن دعم موقفها في الحرب، بل وزيادة حجم التبادل التجاري معها.

وثيقة "مخاطر الأمن الاقتصادي الأوروبي" للمرة الأولى

"الحرب العدوانية الروسية ضدّ أوكرانيا أظهرت كيف أن الاعتماد المفرط على أي دولة بمفردها، خصوصاً عندما تكون مصالحها مختلفة بصورة منهجية مع دول الاتحاد، يقلل من الخيارات الإستراتيجية لأوروبا، ويعرّض اقتصاداتها ومواطنيها للخطر".

هذا مقتطف من نص وثيقة إستراتيجية الأمن الاقتصادي الأوروبي التي دخلت دول الاتحاد في نقاش بشأنها هذه الأيام على مستوى المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي.

وتلك وثيقة فريدة لم تصدر من قبل، لا من حيث عنوانها ولا ما تضمنته من لهجة صريحة في تحديد المخاطر الأمنية التي تواجه دول الاتحاد في ترجمة لتصريحات رئيسة مفوضيته في بكين.

ترتكز الوثيقة على مبدأ أساسي وهو توسيع الشراكات الاقتصادية واعتماد نهج إستراتيجي شامل في تحديد المخاطر الأمنية المحدقة بالاتحاد ودوله، بالنظر إلى خطورة الاعتماد المفرط على شريك بعينه. هذه الإيماءة الصريحة للصين من بين سطور الوثيقة تؤكد ثلاثة معطيات رئيسية، هي:

- تعريف أوروبي موحد للأمن الاقتصادي.

- تحديد مخاطر الأمن الاقتصادي على الاتحاد والقارة بشكل عام.

- دعم وتقوية السوق الأوروبية المشتركة ومبادرات الاتحاد المنافسة لمشاريع صينية إستراتيجية.

جبهة واحدة أم موحّدة؟

وتظل الولايات المتحدة بمثابة "الفيل الذي في الغرفة" خلال أي مفاوضات أو مباحثات صينية أوروبية، ورغم تأكيد واشنطن العلني بأنّها لا تريد من أوروبا أن تنتهج نهج السياسة الحمائية مع الصين بصورة واضحة، فإنّ القادة الأوروبيين عبّروا غير مرة عن رغبة أوروبية صريحة في انتهاج سياسة صناعية وفق دبلوماسية حذرة، فالاعتماد الأوروبي على الصين وإن أمكن تقليصه لا يمكن التخلص منه بصورة كاملة، بعكس الولايات المتحدة.

فرغم توسيع بايدن التجارة مع أوروبا، فإنّ الاتفاقيات الموقّعة تأخذ طابعاً ثنائياً أو إقليمياً وفق إطار سابق يعتمد أساساً على تعددية اللاعبين في السوق، وهو أمر لا يمكن الانعتاق منه تماماً بتجاهل أو إقصاء الصين.

وهنا يبرز الحديث عن نظرة واشنطن في أروقة المباحثات مع القادة الأوروبيين، التي تتمتع عادة بنهج أكثر صراحة في وصف الدول الأوروبية على أنّها لا تريد اتخاذ السياسات الصارمة مع الصين ثم تطلب الحماية من واشنطن.

وتطرح واشنطن مؤخراً على دول الاتحاد حلاً تراه عملياً عبر بناء تحالف لمواجهة الصين مع الدول الآسيوية، وبخاصة الهند واليابان وفيتنام، وذلك مقترح لم يجد حتى الآن آذاناً مصغية في أوروبا التي يعتبر قادتها أنّ بناء شراكة بين تكتلين سيضعف دول الاتحاد وسيحول عقيدة تجمعها الاقتصادية إلى عقيدة أمنية جيوسياسية ستفرض عليها الدوران في فلك حسابات خارج إطار نفوذها الأمني والسياسي في آسيا وإفريقيا وغيرها.

ماذا يحمل المستقبل؟

ويظهر ممّا تقدم أنّ الاتحاد الأوروبي يعيش تحت وطأة صدمة حرب روسيا على أوكرانيا فيما يتابع العمل من أجل توفير الاكتفاء من مصادر الطاقة وغيرها من الموارد الأساسية. وبينما يبدو التوقيت مناسباً بدرجة كبيرة لنظرة أكثر تأنياً في التعاطي مع الصين بالنظر إلى موقفها من الحرب، فإنّ دول الاتحاد لا تبدو مستعدة على المدى القصير للتفكير بسياسة تعتمد الأمن الاقتصادي نهجاً محورياً في تدشين شراكاتها.

فقبل درس الحرب كانت ألمانيا وفرنسا في سباق تقارب مع روسيا على قاعدة الشراكة الاقتصادية، وهو السباق ذاته الذي يتواصل الآن بينهما في توسيع دائرة التصنيع مع أكبر شركاء أوروبا التجاريين.

والواضح أنّ السباق سيتواصل دون توقف إلا وفق حصول تغيرات في عاملين مهمين:

أولهما قدرة واشنطن على توحيد جبهة على أساس مقنع للشركاء الأوروبيين دون اجتزاء، تقوم على مواجهة الصين أو احتوائها على أقل تقدير.

ثانيهما إدارة تداعيات الحرب وما سيترتب عليها من نتائج إستراتيجية وجيوسياسية، ستحدد بصورة كبيرة مستقبل العالم لا قارة أوروبا فقط، وبخاصة القاعدة الأساسية التي ستحكم العلاقات بين قواه العظمى وتكتلاته الجيوسياسية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً