يُعَدّ الدفاع عن حق الحياة مشروعاً ومبرَّراً، وتحرص القوانين والدساتير في العالم على احترامه، لكن ذلك قد يتعارض أحياناً مع استراتيجيات الدول وسياساتها، فتبدأ بوضع الموانع والعراقيل لتبرير عدم قبوله.
يعاني كثير من دول العالم والوطن العربي بشكل خاص من النزاعات، سواء كانت داخلية أو في مواجهة عدوّ خارجي، ما يجعل سكان تلك البلاد يُضطرُّون إلى النزوح إلى بلاد أكثر أماناً واستقراراً تاركين خلفهم بيوتاً ومتعلقات شخصية وذكريات ليبدؤوا من الصفر حياة جديدة كلياً، فيها من الصعوبات ما تنحني الجبال لثقله، ولكنهم مع ذلك يلبُّون نداء الحياة لتمنحهم فرصة جديدة.
عملت دول الاتحاد الأوروبي التي تتمتع بالاستقرار والرفاه إلى حد كبير بالمقارنة ببلادنا، على صياغة قانون ينظّم وجود اللاجئين على أراضيها، فكانت اتفاقية اللاجئين التي وقعت دول الاتحاد الأوروبي عليها بمثابة ميثاق يُعلِي قيمة الإنسانية ويفتح الأبواب لمن تضطرُّه ظروف الحرب والسياسة والمعيشة إلى الانتقال من بلاده نحو أخرى.
تعهدت دول الاتحاد الأوروبي بموجب تلك الاتفاقية ببناء نظام أوروبي مشترك للجوء على أساس التطبيق الكامل والشامل لاتفاقية اللاجئين لعام 1951، وأخذت على عاتقها دوراً مهمّاً في ما يتعلق بقضايا اللجوء وإعادة التوطين داخل وخارج الاتحاد، كما أصبح لقوانين وممارسات الاتحاد الأوروبي تأثير كبير في تطوير آليات حماية اللاجئين في البلدان الأخرى.
ليس من السهل أن يُقتلع الإنسان من جذره، لكنه أمر وارد، ومن أجل ذلك عملت الدول الأكثر رخاءً واستقراراً على تأمين شرط الحماية ومنح اللجوء لطالبيه بعد التحقق من صدق ادّعائهم وفق تحقيقات مستمرَّة ومختلفة، آخذين بعين الاعتبار الوضع الإنساني للاجئين الفارِّين من ظروف أوطانهم واضطراباتها.
بعد النزوح الكبير في عام 2015، مثلما يسمِّيه الخبراء، أصبح أمر اللجوء مرشحاً بقوة لإعادة النظر فيه، ذلك أن البلاد المستضيفة استقبلت أعداداً هائلة من الباحثين عن شرط حياة أفضل بسبب الاضطرابات، وقد زاد ذلك عليها العبء المادي والضغط الاجتماعي في آن واحد، وجعلها الظرف السياسي تتخوف من التطورات التي قد تحصل في إفريقيا والشرق الأوسط مما قد يزيد أعداد الراغبين بالوصول إلى بلدان الحلم.
من هذا المنطلق فقد طرحت المفوضية الأوروبية في سبتمبر عام 2020 ميثاقاً جديداً لدول الاتحاد الأوروبي، وإذا ما تبنّى الاتحاد الأوروبي الميثاق الجديد، فسيكون هناك انعكاسات غير مسبوقة على الهجرة واللجوء نحو القارة الأوروبية، وحسب الميثاق فإن الحكومات ترغب في جعل دول الاتحاد الأوروبي أقلّ جذباً للجوء والهجرة، إضافة إلى التخلُّص من مئات آلاف المقيمين بصفة غير قانونية ممن لم ترَ سبباً في ملفاتهم لمنحهم حقّ اللجوء، كما توجد مساعٍ لتسريع ترحيل اللاجئين نحو بلدانهم الأصلية، علاوة على تَملمُل الدول الأعضاء في الاتحاد التي تُعَدّ أقلّ رخاءً ورفاهية، ورفضهم تحمُّل أعباء كثير من المهاجرين بسبب غياب سياسة التضامن الأوروبي وعدم تعاونهم معها أو دعمها مادِّيّاً في مسؤوليتها تجاه من تستضيفهم.
لقد بدأت سياسة أوروبا تختلف إلى حد كبير بالتعامل مع ملفات اللجوء على خلاف ما تدّعيه من منحها حقّ اللجوء لمن يحتاجون إلى اللجوء الإنساني، جاء ذلك استجابة لرفض بعض الشرائح المتعصبة من الشعب في البداية وعلى خلفية ضغط المتطرفين بعد صعود واضح لليمين المتطرف في عموم أوروبا.
يدّعي المناهضون لوجود اللاجئين في بلادهم أنهم غير مندمجين وقادمون من ثقافات وبيئات مختلفة ومتخلفة في الوقت ذاته، وغير قادرين على الاندماج مع المجتمعات المدنية المتحضرة… غير أن ذلك التعميم ينطوي في مضمونه على عدم فهم للثقافات والحضارات التي قدم منها اللاجئون، ويشير ولو بشكل غير مباشر إلى أن المجتمعات الأوروبية التي تدّعي الإنسانية والانفتاح على الآخرين على اختلاف انتماءاتهم غير قادرة على تقبُّل الاختلاف وترفض وجود الآخر بشكل قطعي في حال كان ينتمي إلى بيئة مختلفة أو يعتنق رأياً مختلفاً.
تسعى أوروبا في اليوم الحاضر لتحقيق ما يُسمَّى "سياسة صفر لجوء إنساني" تحت أعذار ومبررات متعددة، وقد يلجأ بعض الدول إلى تحاشي الانتقاد إذا رفضت طلبات اللجوء بالجملة، فتحاول إطالة دراسة ملفات اللاجئين وإخضاعهم لتحقيقات مكثفة ومتواصلة وتعقيد طلبات لمّ شمل العائلات، أو ممارسة ضغط نفسي عليهم للتأكد من انتماءاتهم والتشكيك بنيَّاتهم والتحقُّق من السبب الكامن وراء رغباتهم في الوصول إلى القارة الأوروبية، حتى إنهم لا يصدِّقون حَمَلة الشهادات ويعتقدون بكذبهم، لاعتقادهم أن القادمين من تلك الدول ينحدرون من بيئة أُمِّية متخلفة لا علاقة لها بالحضارة أو التعليم.
مؤخراً كانت الدنمارك أولى الدول الأوروبية التي أقرت قوانين تعقِّد إجراءات اللجوء وتزيد صعوبة الحصول عليه، فقد أقرّ البرلمان الدنماركي قانوناً ينصّ على إسناد دراسة طلبات اللجوء إلى دول ثالثة في المستقبل، وبموجب ذلك يجب على طالبي اللجوء تقديم طلب على الحدود الدنماركية حتى يتم نقلهم جوّاً إلى مراكز الاستقبال في بلدان أخرى، ثم ستُعالَج طلباتهم خارج حدود الدنمارك وسيُضطرُّون إلى الانتظار في معسكرات حتى الانتهاء من إجراءات اللجوء الخاصة بهم، والغريب في الأمر أن هذا لا يعني بالضرورة أن طالبي اللجوء الذين تنتهي دراسة ملفاتهم بقبول لجوئهم سوف يتمكنون من السفر إلى الدنمارك بعد ذلك، بل سيبقون في البلد الذي قدّموا فيه الطلب أو سوف يُنقلون إلى أحد مخيمات اللجوء التابعة للأمم المتحدة، الأمر الذي انتقده بشدة الاتحاد الأوروبي لأنه يتعارض مع سياسة اللجوء والمغزى منها.
في السياق نفسه صنفت الحكومة الدنماركية مدينة دمشق وما حولها إضافة إلى مناطق أخرى في سوريا مناطقَ آمنةً، وأبلغت أصحاب الإقامات المنحدرين من تلك المناطق أنها لن تجدد إقاماتهم وسيتم تحويلهم إلى جهات مختصة من أجل بدء إجراءات الترحيل، كما حددت الحكومة سقفاً لعدد المهاجرين الغرباء الموجودين في الأحياء السكنية تمهيداً للوصول إلى صفر لجوء في الدنمارك.
تتبع حكومة وسط اليسار الدنماركية حاليّاً سياسة هجرة هي من الأكثر تَشدُّداً في أوروبا، وعلى الرغم من أنها وحدها تتبع مثل ذلك النظام، وعلى الرغم من رفض منظمة الهجرة واللجوء لمثل هذه السياسية، علاوة على اكتشاف كثير من المشكلات الإجرائية والقانونية في تطبيقها، فإنه لا يوجد ما يضمن أن لا تتبعها دول أخرى، إذ ذكرت صحف ألمانية أن ألمانيا بدأت تُصدِر قرارات ترحيل لمرتكبي بعض الجنايات، كما بدأ كثير من الدول اتباع سياسة صارمة في قبول طلبات اللجوء من عدمه.
سوريا ليست آمنة، ولا أفغانستان أو الصومال أو العراق أو أي من الدول التي تعيش حالة اضطراب، وذلك الخطاب المنافي للواقع الذي تصدره الحكومات لشعوبها ليس هدفه سوى تسويق طرد اللاجئين وحشد الرأي العامّ، ويبقى طالب اللجوء متَّهَماً بالإرهاب والاحتيال والرغبة باستغلال موارد الدولة المضيفة من دون بذل مجهود، على الرغم من أنه إذا كان على أحد أن يتحمل المسؤولية في ذلك فهو دول العالم الأول التي دعمت عمليات عسكرية غير مبرَّرة وصمتت عن حكومات استبدادية مجرمة بحقّ شعوبها ولم تحرِّك ساكناً حين اضطُرّ ملايين اللاجئين إلى ترك حياتهم وبلدانهم والبحث عن الأمان في بلدان أخرى.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.