وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن النظام السوري لم يعد نظام استبداد وإجرام فحسب، بل نظام إبادة لا يمكن علاجه إلا بالاستئصال.
صحيح أن مجزرة التضامن ليست الأولى في عهد نظام الأسد، إلا أنها الأكثر وضوحاً ويقيناً في أنّ الإبادة ليست تصرفات فردية من نافذين فيه، لا سيما أن الباحثَين اتَّبعا منهجية لا تدع أي مجال للشك بأن المجزرة ارتُكبت بعلم القيادات العليا في النظام السوري، وربما بعلم رأس النظام ذاته.
وفي حين أعادت مجزرة التضامن إلى أذهان السوريين مذابح حماة وحلب التي ارتكبها مؤسس نظام الإبادة "حافظ الأسد" ودفن صورها قبل دفن ضحاياها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أعادت أيضاً إلى ذاكرة الفلسطينيين أول مجزرة إبادة ارتكبها حافظ الأسد بعد توليه السلطة، إذ كانت بحق اللاجئين الفلسطينيين في مخيم تل الزعتر شمال شرق العاصمة اللبنانية بيروت، عندما دخلت قواته مع مليشيات يمينية لبنانية إلى المخيم بعد حصار خانق استمر 52 يوماً أمطر خلالها المخيم الذي لا تتجاوز مساحته كيلومتراً مربعاً واحداً بأكثر من 55 ألف قذيفة.
أبادت قوات حافظ الأسد والمليشيات اليمينية أكثر من 4000 فلسطيني في المخيم، واغتصبوا النساء وبقروا بطون الحوامل وسلبوا الأموال وهدموا المنازل، ليخرج شيمون بيريز وزير الحرب الإسرائيلية آنذاك في تصريح قال فيه إنّ هدف إسرائيل هو نفسه هدف دمشق وإنه يجب منع سقوط لبنان تحت سيطرة منظمة التحرير الفلسطينية.
منذ ذلك الحين، منذ إبادة الفلسطينيين في تل الزعتر وصولاً إلى التضامن، لم يصنّف المجتمع الدولي مجزرة يرتكبها نظام الأسد على أنّها إبادة جماعية تستوجب المحاسبة، مبرراً ذلك بعدم امتلاكه ولاية قضائية لفتح دعاوى تتعلق بجرائم الإبادة في سوريا، على اعتبار أنّ سوريا ليست طرفاً في نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية ولم توقع أو تصدق على ميثاق روما الأساسي المنشئ لمحكمة الجنايات الدولية، ولتجري محاسبته لا بد من موافقة مجلس الأمن الدولي التي يعوقها حق النقض (الفيتو) الروسي.
ولو كان المجتمع الدولي جاداً في محاسبة الأسد لاستطاع رفع الدعوى عن طريق الأردن الموقِّعة على نظام روما الأساسي، أسوة بميانمار حين تعرض فيها الروهينغيا لجرائم إبادة وفروا إلى بنغلادش الموقعة على ميثاق روما.
وعلى صعيد التدخل من دون انتظار مخرج قانوني يسمح بجر بشار الأسد إلى لاهاي، يمكن للدول خصوصاً الكبرى كالولايات المتحدة إذا وجدت ضرورة التدخل لحماية شعب من الإبادة أن تتدخل مباشرة.
فعندما أرادت الولايات المتحدة إنهاء النظام العراقي بعهد صدام حسين اعتبرته نظام إبادة بناء على أحداث الأنفال والدجيل، وتجاوزت مجلس الأمن الدولي بتدخلها العسكري. وهنا يبرز السؤال الذي يسأله السوريون على الدوام: لماذا لم تفعل الولايات المتحدة أقل من ذلك بسوريا؟ لماذا لم تفرض حظراً جوياً وتترك مهمة اقتلاع الأسد على السوريين الذين كانوا يستطيعون فعلها لولا براميل الأسد المتفجرة وطائرات روسيا؟
هذا التقاعس الدولي تجاه المذابح التي ارتكبها الأسد شكّل حصانة دائمة له ومكّنه ليس من تحويل مؤسسات الدولة إلى أذرع تطبش بشعبه وحسب، بل تعدى الأمر ذلك إلى تجنيد الأحزاب السياسية الموالية له والمنظمات الطلابية لارتكاب مجازر وانتهاكات بحق معارضيه، فكانت كتائب البعث التابعة لحزبه ومليشيا الحزب القومي السوري وشبيحة اتحاد الطلبة واتحاد شبيبة الثورة، حتى وصل الأمر إلى أنّ أعضاء في مجلس الشعب شكّلوا مليشيات هدفها الأساسي قتل الشعب وإخماد ثورته.
كافأ بشار الأسد كل من وقف إلى جانبه فمنحهم المناصب وسمح لهم بالحصول على الأموال من خلال عمليات إرهاب المدنيين وابتزازهم وسرقة المنازل وفرض الإتاوات، وأعفاهم من المساءلة والمحاسبة، والمثال على ذلك تنصيب قائد "مليشيا البعث" في دير الزور أميناً عامر لفرع حزب البعث فيها، على الرغم من ثبوت ارتكابه مجازر بحق المدنيين.
في المقابل دأبت المعارضة السورية على السعي نحو حل سياسي من دون التطرق إلى أنّ أنظمة الإبادة لا يمكن تغيير سلوكها، وعلاجها الوحيد هو الاقتلاع، وبدلاً من السعي نحو حل يضمن تشكيل هيئة حكم انتقالي مناصفة بين المعارضة ونظام الأسد كان عليها إقناع المجتمع الدولي بتأسيس محكمة جنائية دولية خاصة بسوريا أسوة بالمحكمة الجنائية الدولية لرواندا. فالتفاوض مع الأسد ينزع صفة الإبادة عنه.
إنّ المتغيرات الدولية وتراجع اهتمام المجتمع الدولي بالمذبحة السورية شكّل معضلة أمام المعارضة السورية، ولا بد من حدث كبير تستثمره المعارضة السورية لإعادة القضية السورية إلى أولويات الاهتمام الدولي، فكانت مجزرة التضامن ورقة مهمة لإعادة سوريا إلى واجهة الاهتمام الدولي، إلا أنّ الاكتفاء ببيانات وتصريحات من دون تحويله إلى قضية قانونية وحقوقية تستوجب المحاسبة قلل من أهمية المجزرة.
عدم جديّة المعارضة في أن تضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته تجاه مجزرة الإبادة في حي التضامن الدمشقي والاكتفاء بما ستفعله اللجنة الدولية الخاصة بتقصي الحقائق بسوريا التي أسسها مجلس حقوق الإنسان في جنيف مكّن الأسد من التغطية عليها بعفو رئاسي شمل أقل من مئتي معتقل سياسي من أصل أكثر من مئتي ألف لقي الكثير منهم حتفه تحت التعذيب.
عفو الجاني عن الضحية كان مثار اهتمام المجتمع الدولي أكبر من اهتمامهم بجريمة الإبادة في حي التضامن، وهذا ما عبر عنه المبعوث الدولي بدرسون خلال مؤتمر دعم سوريا في بروكسل عندما قال إنّ مرسوم العفو الرئاسي الأخير الذي أصدره بشار الأسد يعدّ "تطوراً مهماً وإيجابياً".
ينتظر السوريون توقف الإبادة المستمرة منذ تولي عائلة الأسد السلطة في سوريا، وتفعيل مبدأ المحاسبة والمساءلة عن جرائمهم، وجر بشار الأسد إلى قفص العدالة، وتهيئة بيئة تمكنهم من ضمان أمنهم وأمن أولادهم، من أجل عودة آمنة إلى ديارهم التي هُجّروا منها، وإعادة بناء منازلهم التي دمّرها قصف رئيس بلادهم وجيشها، ينتظرون أيضاً جدّية دولية تجاه تفعيل آلية تحوّل خطابات التضامن إلى قوانين تفضي إلى إنهاء الحقبة الدموية في سوريا.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.