تبنت ألمانيا مؤخراً استراتيجية اقتصادية جديدة مفادها خفض الاعتماد على المنتج الصيني، ما تسبب بغضب الصين بسبب ما عدّوه فوقية في التعامل معهم بعد سلسلة من التوترات مع الغرب، وهو ما قد يشير إلى زعزعة في العلاقات وأزمة اقتصادية ربما لم تكن ألمانيا مستعدة لها، ذلك أن الصين تعد أكبر شريك تجاري لها في السنوات الأخيرة.
بدأ الخلاف على خلفية الزيارة الأخيرة لمستشار ألمانيا إلى بكين في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فقد واجه انتقادات حتى من أعضاء ضمن ائتلافه الحكومي لتخوفهم من زيادة الاعتماد الاقتصادي على الصين بالتزامن مع اقتراب حصول بكين على حصة في ميناء هامبورغ.
التوتر الاقتصادي بين البلدين ربما يُخفي وراءه أزمة أكبر على الصعيد السياسي، لأن القراءة في ما وراء السطور لتصريحات زعيم الحزب الديمقراطي الاشتراكي المستشار الألماني أولاف شولتز، ولهجته في معرض دعوته إلى ضرورة تغيير سياسة برلين تجاه بكين بسبب مخرجات مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير، تشيان بأن المعلَن عنه لا يتعدى كونه واجهة، وأن هنالك ما هو أبعد من المآرب الاقتصادية وأن الخلاف الأعمق يبدو سياسياً بسبب تجاذبات بين ألمانيا والصين حول تايوان التي تعيش مع بكين خلافات حقيقية بسبب تخوفات من الانفصال.
تبدّت بوادر الخلاف بين ألمانيا والصين بعد زيارة وفد برلماني ألماني لتايوان في أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، الأمر الذي أغضب بكين فأوصلت رسالة إلى النواب الألمان محذرةً إياهم من إرسال إشارات خاطئة إلى القوى الانفصالية، حسب وصف السفارة الصينية في برلين.
يعود توتر العلاقة بين الصين وتايوان إلى عام 1949، حيث سيطر الشيوعيون على الصين، لكن الوضع تأزم مع إعلان الصين قانوناً يبيح استخدام القوة في حال أعلنت تايوان رغبتها في الاستقلال، وبقيت الأوضاع متوترة في وقت لم يغب فيه الظل الأمريكي عن اللعب على الحبال، إذ بقيت علاقة الولايات المتحدة جيدة مع الطرفين؛ فمن جهة تحافظ على العلاقة مع بكين عبر قنوات الاتصال الدبلوماسي الرسمية، ومن جهة تدعم تايوان عسكرياً، فتثير حفيظة حكومة الصين التي باتت تسعى إلى استقطاب حليف قوي يدعمها في حال حصول أي معارك مع الجانب التايواني.
كان للزيارة التي لم تأتِ على هوى حكومة الصين تبعات على علاقة برلين وبكين، إذ بدأت تزداد حدة التصريحات الألمانية من زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي لارس كلينغبايل، الذي دعا إلى ضرورة فك الارتباط الألماني مع الصين ملمحاً في تصريحاته إلى احتمالية وقوع مناوشات بين تايوان والصين، داعياً في الوقت نفسه إلى ضرورة الاستفادة من الدرس الأخير مع روسيا وضرورة التخلي عن سياسة الاعتماد الكبيرة على الأطراف الخارجية.
واجهت ألمانيا بعد ذلك تناقضاً في مواقف السياسيين الألمان وصل إلى حد تضارب في الخطاب المعلن، فكان لا بد من اعتماد استراتيجية واضحة تقتضي توضيح الموقف الحقيقي من العلاقة الاقتصادية مع الصين، ومحاولة إيجاد شركاء آخرين لبرلين التي يبدو أنها بدأت تضع حدوداً للعلاقة مع العملاق الآسيوي.
الاستراتيجية لم تقتصر على محاولة تحديد العلاقات ووضع أطر وحدود واضحة بين البلدين، بل تجاوزت ذلك إلى محاولة تحذير الشركات الألمانية العاملة في الصين من مخاطر قد تصل إلى سحب الرعاية منها وعدم حمايتها في حال وقوع أي أضرار، وهو تلميح يحمل معاني سياسية.
لم تمر بالطبع تصريحات ألمانيا من دون رد فعل من الحكومة الصينية، التي أزعجتها بطبيعة الحال نبرة التعالي والفوقية من طرف الحكومة الألمانية، فاستخدمت لغة تحذيرية هي أيضاً، لتزداد التوترات بين الطرفين.
وإذ يحاول الطرفان تصدير المشكلة الاقتصادية إلى الواجهة لتمويه الحقيقة التي تدور خلف الكواليس، فإن تفاصيل الأحداث والمشاورات الجانبية تفوح منها رائحة الأزمة السياسية بين الصين ودول الغرب، الأمر الذي قد يضر بألمانيا بسبب اعتمادها الشديد على الصين، ما يعني أنها المتضرر الأكبر في حال تضخُّم المشكلة بين دول أوروبا والصين، وأن عدم تراجعها خطوات إلى الوراء سيشكل عائقاً أمام قدرتها على اتخاذ موقف إلى جانب الحلفاء الغربيين وسط تلميحات إلى احتمال غزو الصين لتايوان.
ما يؤكد وجود الأزمة السياسية في الكواليس، تجدد الحديث عن تشدد الصين في سياساتها، وانتقاد استبدادها، والتذرع بعدم توافق مخرجات المؤتمر الشيوعي الأخير مع سياسات الغرب.
من بين المناوشات الاقتصادية التي تحدث يبدو أن من غير المقبول إغفال إصرار روسيا على فرض نفسها قطباً قوياً في عالم السياسة وبدء خلق علاقات قوية مع حلفاء اقتصاديين تعد الصين في مقدمتهم، وهو الأمر الذي أثار حفيظة أوروبا من جهة وجعل الولايات المتحدة تحاول استقطاب حلفائها الغربيين هي الأخرى عن طريق تقارير ودراسات تفنّد شكل العلاقة وتستنبط نتائجها.
حالة الأقطاب والاصطفافات الدولية جعلت الصين هدفاً استراتيجياً للضغط عليها كي تتحول من الجانب الروسي وتنضم إلى الجانب الأمريكي، وهو أمر عملت روسيا على إفشاله منذ أصبحت حليفاً استراتيجياً للصين، وإذا كان هناك كثير من المحاولات للضغط عليها من طرف أوروبا، فهي محاولات لا بد أن تكون أمريكا ضليعة فيها إلى حد كبير ولا يُعقل أن تمر من دون مباركتها.
ربما يقع الكثير من الأحداث ريثما تتضح مؤشرات العلاقة بين كل من ألمانيا والصين، لكن المرجح أن أمريكا تسعى إلى الضغط على الصين وتحاول حصرها في زاوية معينة انتقاماً لانحيازها إلى روسيا في الحرب الروسية-الأوكرانية التي لم تُبدِ أمريكا بها ترحيباً.
الأمر الأكثر تعقيداً الذي ستضطر ألمانيا إلى دفع فاتورته وحدها، هو أن تحقيق الانفصال بين البلدين يبدو صعباً واستمرار العلاقة الاقتصادية التي يطغى عليها الحذر والريبة يبدو أكثر صعوبة، خصوصاً بعد أن زادت إيرادات ألمانيا من الصين على حساب صادراتها، وسط مناخ حذر من الشركات الألمانية لتخوفهم من سيطرة الصين على الشركات الألمانية هناك.
لكن ما يبدو جلياً من الأوضاع الأخيرة هو التغير الكبير في رد فعل الصين ورفضها القاطع سياسة الفوقية التي اعتمدت التهديد والوعيد، وعدم الإذعان لشروط ألمانيا والقبول بأن تكون اليد العليا لأوروبا، بعد أن أدركت بكين موقعها كشريك يحظى بقدر كبير من النفوذ في العالم الغربي، وبعد أن تفوقت في مسألة اليد العاملة والمواد الأولية، وهو أمر ربما لن تقوى ألمانيا على احتماله بعد أن أصبحت مهددة بركود وتضخم محدقين.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.