يتدفّق الناس إلى مكتبه أو متجره في النهار، ثم يعود إلى أسرته محمّلاً بعوائد الكدّ اليومي في المساء. كان هذا في ما مضى، قبل لجوئه إلى أوروبا واصطفافه مع المتزاحمين لطلب مساعدات من موظفة تحمل أختام الدولة. صار ربّ الأسرة مجرد وسيط في الإنفاق على بيت بوسعه الاستغناء عنه، فقد يحوز الأبناء والبنات مصروفهم المستقلّ عن والدهم أو تتلقّى الزوجة أموالاً مقررة للبيت فتصير هي "اليد العليا" ضمن النسق الأسري في البيئة الجديدة.
إنه من وجوه انقلاب الأدوار في واقع الهجرة واللجوء بكل ما يتخلّله من تغييرات جوهرية في البيئة المحيطة بالأسرة العربية، فمع انقلاب "علاقات الإنتاج" داخل البيت لا يعود الأب أو الزوج بمقتضى ذلك هو المعيل؛ وإنما الدولة وسلطات اللجوء والشؤون الاجتماعية.
ليست رحلة اللجوء وجمع الشمل الأسَري نزهةً عابرة فهي منعطف حادّ تتخلّله تحوّلات عميقة تؤدي غالباً إلى خسارة شبكة الأمان الاجتماعي التقليدية التي تقوم على أواصر القرابة والجيرة والصداقة.
وإذ تتطلّب البيئة الجديدة خبرةً مختلفة عن بيئات المنشأ؛ تستشعر بعض الأسَر أنّ الأب أو الزوج ما عاد يستحوذ على امتياز المعرفة بخريطة الطريق المعيشية، لاعتبارات تتّصل بأسبقية الزوجة أو الأولاد في الوصول ومدى المعرفة اللغوية وقدرة التكيّف مع التحوّلات. من المألوف أن يصير الأب والأم معاً أقلّ فهماً للواقع الأوروبي من أبنائهم وبناتهم العرب، فتؤدِّي الفجوة المعرفية إلى انقلاب نسبي في توازنات التربية والتوجيه داخل الأسرة بكلّ ما يعنيه ذلك من اختلالات.
تبدو هذه الخبرة جديدة بالنسبة لمئات آلاف العرب الذين تدفّقوا إلى دول أوروبية في السنوات الأخيرة طلباً للمأوى، اجتاز بعضهم مشاقّ ومخاطر جسيمة لم ينجُ منها بعض رفاقهم، ثم حصل "المحظوظون" منهم على موافقة اللجوء، بينما تواصل أفواج غفيرة عدّ الأيام والليالي في انتظار مديد.
لا يعني ختام متاعب الانتظار أنه "نهاية سعيدة" حقاً، ففي ظلال تسوية الأوراق القانونية تتراكم أعباء اجتماعية ومآزق معنوية غير مرئية على كاهل بعض اللاجئين العرب الذين لم يتحسّبوا لذلك. ليست رحلة اللجوء وجمع الشمل الأسَري نزهةً عابرة، فهي منعطف حادّ تتخلّله تحوّلات عميقة تؤدي غالباً إلى خسارة شبكة الأمان الاجتماعي التقليدية التي تقوم على أواصر القرابة والجيرة والصداقة والزمالة التقليدية، يُباشِر الوافدون إلى بيئة اللجوء نسج أواصرهم الجديدة بدون أن تمنحهم شبكة أمان، كالتي عرفوها من قبل.
قد يحظَى اللاجئون العرب بمخصّصات مالية ممنوحة لأقرانهم وبتأمين صحي وعلاوات الأطفال والسكن والإرشادات وبعض مكتسبات المجتمع التعاقدي الجديد؛ لكنهم سيفقدون على الأرجح مزايا المجتمع التراحمي التي عهدوها، فشبكة الأمان الجديدة منسوجة أساساً من امتيازات دولة الرعاية الاجتماعية بمؤسساتها وخدماتها وأحقيتها في التدخّل بقوة القانون، ولا تقوم على الأواصر الإنسانية التقليدية.
إنّ إعادة توزيع الأدوار داخل الأسرة أو انقلابها رأساً على عقب قد يجعلها عرضة لهزّات ويُضعِف تماسكها، خاصة مع صعوبات التكيّف مع الواقع الجديد.
مع افتقاد الأسرة العربية اللاجئة في بيئتها الأوروبية شبكة الدعم والأمان الاجتماعي التقليدية التي كانت تستند إليها في بيئة المنشأ؛ تشتدّ وطأة الصعوبات الواقعة عليها، خاصة على الزوجة أو الأمّ. قد تصل المرأة العربية إلى أوروبا قبل زوجها لطلب اللجوء، أو قد يستبق بعض الأبناء أولياء أمورهم؛ بما يقلب النمط السائد الذي تشكّلت هذه الأسر على أساسه غالباً، من نهوض الزوج أو الأب بمسؤولية أولى في قيادة الأسرة في بيئتها؛ إلى قيام الأمّ أو الزوجة بهذا الدور، وربما يُحرز الأبناء قصب السبق في هذا المجال.
إنّ إعادة توزيع الأدوار داخل الأسرة أو انقلابها رأساً على عقب قد يجعلها عرضة لهزّات ويُضعِف تماسكها، خاصة مع صعوبات التكيّف مع الواقع الجديد.
يحسب بعض اللاجئين أنهم ولَجوا مجتمع الرفاه؛ دون أن يلحظوا أنّ إجمالي المساعدات التي يتلقّاها أحدهم من الهيئات المختصّة لن ترتفع به فوق خط الفقر إلاّ قليلاً، وقد تهوي به دونه أحياناً، تتكفّل المساعدات المقررة بتأمين الحدّ الأدنى لمتطلبات المعيشة في أي بلد أوروبي، وقد يكتشف اللاجئون بمضيّ الوقت أنهم فئة ضعيفة وهشّة بالمفهوم الاجتماعي، بكل ما يجرّه ذلك من أعباء على فرص أجيالهم، ما لم يتأهّلوا سريعاً للفكاك من هذه الحالة الاعتمادية.
من شأن العلاقة الاعتمادية التي تنطوي عليها حياة كثير من اللاجئين في أوروبا أن تجرّ انعكاسات قد تكون جسيمة عليهم أحياناً؛ قد تبقِى بعض هذه الانعكاسات في المستوى المعنوي والنفسي دون أن تظهر أعراضها على السطح؛ لكنّ بعضها يؤجِّج خلافات أسرية ويحرِّض على انفصال الزوجين وانهيار السقف المعنوي فوق رؤوس أطفالهما، وقد تتفاقم أزمات نفسية واضطرابات سلوكية ظاهرة الأثر، وبعضها يتصل بخبرات الصدمة والترويع في بيئات الحروب والأزمات والتهجير، دون أن تجد الزوجة أو الأطفال شبكة أمان تقليدية لتفريغ هذه الإحباطات.
وصل بعض طالبي اللجوء إلى أوروبا منهكين أساساً بعد مسارات طويلة وشاقة عبر القارات، وتكبّدوا أثماناً باهظة أسدوها إلى سماسرة الأرواح على أمل بلوغ البر الأوروبي أو اجتياز عوائق حدودية متعاقبة، بعد أن عاش بعضهم خبرات مؤلمة وصدمات جسيمة في أوطانهم أو في محطّات النزوح، يضغط هذا الإنهاك المعنوي والأعباء المادية على البداية الجديدة في المأوى الأوروبي، التي لن تكون سهلة على الأرجح.
وإذ يتوارى المجتمع العربي الذي تشكّلت الأسرة اللاجئة ضمنه؛ فإنها تجد ذاتها في بيئة اللجوء مكشوفة لتدخّلات السلطات والمؤسسات والجمعيات التي لها كلمتها في مصير الأولاد مثلاً أو قد تقرِّر بشأن بقاء الأب في المنزل إن ثارت شبهة التعنيف بحقِّه.
وما يُفاقم المعضلة أنّ بعض خيارات الدعم المتاحة في البيئة الأوروبية، عبر المؤسسات والهيئات والجمعيات المختصة، تنطلق من مقاربة مختلفة لأعراف الأسرة ذاتها في التعامل مع التحديات والصعوبات والخلافات الأسرية، وقد تكون الأولوية لتفضيل ما تعدّها امتيازاتٍ للمرأة على حماية الأسرة ذاتها من الانهيار.
مع التحاق الأبناء والبنات بالمدارس والمعاهد في بيئة اللجوء قد تتّسع الفجوة المعرفية والمعنوية التي تفصلهم عن أم وأب يواصلان التشبيك اليومي مع البيئة السابقة عبر الأجهزة المحمولة وانغماسهما في متابعة الشاشات العربية.
إنّ إعلانات "الخطوط الساخنة" لمساعدة الزوجة أو لنجدة الأطفال مبثوثة في الأرجاء وموزّعة في المدارس وقد يؤدِّي طلب الدعم والمشورة من هذه الخطوط إلى كبح سلوكيات خاطئة أو إلى انزلاقات غير محسوبة، من الشائع أن يؤدِّي اللجوء إلى شبكة الأمان المؤسسية البديلة التي تشكّلت في المجتمع التعاقدي إلى تعزيز خيار تفكيك الأسرة أحياناً أو إذكاء الانفصام العاطفي داخلها، مع تراجع حيوية العلاقات الإنسانية بين أفرادها.
أمّا في الجانب الثقافي والاجتماعي والمسلكي؛ فتستشعر بعض النساء والفتيات تحدِّيات خاصة من خلال النظرة إليهن بصفتهنّ عربيات ومسلمات في بيئة تتخلّلها حمولة ثقافية سلبية نحوهنّ، خاصة في حالة الالتزام بتغطية الشعر. تؤدِّي الضغوط المعنوية والتحوّلات الثقافية والاجتماعية والنفسية في بيئة اللجوء إلى تغيير بعض النساء العربيات اللاجئات هيئتهن وتخلِّيهن عن غطاء الرأس، ومثل هذا قد يكون مؤشراً على تحوّلات أعمق أو على استشعار ضغوط معنوية في البيئة الجديدة، وتختار بعضهنَّ مع مضيّ الوقت خياراً عكسياً بالسعي الحثيث للمحافظة على الهوية الثقافية الذاتية والالتزام الديني بكل ما يعنيه ذلك من حماية رمزية أو تشبّث بالخصوصية ضمن مجتمع أوسع.
ومع التحاق الأبناء والبنات بالمدارس والمعاهد في بيئة اللجوء قد تتّسع الفجوة المعرفية والمعنوية التي تفصلهم عن أم وأب يواصلان التشبيك اليومي مع البيئة السابقة عبر الأجهزة المحمولة وانغماسهما في متابعة الشاشات العربية. إنها فجوة قائمة أساساً بين الأجيال في المجتمعات كافّة وتعدّها بعض الدراسات الأوسع في التاريخ بالنظر إلى انخراط الجيل الجديد (المولود بعد 1997 تقريباً) في الزمن الشبكي وصعوبة تصوّرهم شكل الحياة اليومية قبل ذلك.
إنّ الأسرة التي لا تدرك طبيعة المجتمع الجديد وثقافة البيئة وأدوار رياض الأطفال والمدارس في الاندماج الاجتماعي، قد لا تنجح في القيام بالمسؤولية التربوية والتوجيهية. وقد يتم الاستعاضة عن ذلك بهيمنة روح الأزمة على التربية بما يفرض أجواءً ضاغطة على الأولاد والبنات تكون لها مردودات عكسية، فقد تُفضي وسائل التربية والتأديب التقليدية إلى جنوح الأبناء والبنات أو إلى تجريد الأسرة من حضانتهم.
لا شيء يكاد يعادل شعور أسرة عربية لاجئة في أوروبا بخسارة ابن أو ابنة، أو بوطأة انتزاع أي من أطفالها من الحاضنة الأسرية إلى حاضنة بديلة بقوّة القانون. إنها من التجارب القاسية التي تجرّعتها أسر عدّة في أنحاء أوروبا، وهي من أعراض صعوبات التكيّف مع البيئة الجديدة التي قصدوها وظنّها بعضهم فردوساً أرضياً.
ثقيلة هي الضريبة الاجتماعية والأعباء المعنوية على اللاجئين العرب في أوروبا وإن لم تعترف بذلك صور ذاتية يلتقطونها لمنح الانطباع بعيشهم الهانئ، ووفيرة هي تجاربهم المُلهِمة أيضاً في إعادة التأسيس ضمن بيئة جديدة وتجاوز الصعوبات الثقافية والاجتماعية والفكاك من الحالة الاعتمادية التي اضطرّوا إليها، بما يشير إلى اقتدار بعضهم على الإبحار فوق أمواج متلاطمة خلال رحلات محفوفة بالمغامرة والتضحيات.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.