وكان المتورط يشغل منصب مدير المنظمة في ولاية أوهايو، ويُدعى رومين إقبال، وقد اعترف بصحة الاتهامات الموجَّهة إليه، إذ قام بتسجيل اجتماعات ومكالمات بشكل سري، وسرّب مراسلات وخطّطاً استراتيجية وقدّمها لمؤسسة أمريكية متطرفة تُعتبر من أبرز صانعي الإسلاموفوبيا والمحرّضين على معاداة الإسلام في أمريكا.
المنظمة التي تَجسَّس إقبال لصالحها تُدعَى منظمة المشروع الاستقصائي حول الإرهاب، ويقودها اليميني المتطرف ستيفن إيمرسون، وهو أحد المحرّضين على معاداة الإسلام عبر مؤسسته التي تنشط منذ 25 عاماً، وتهدف إلى ربط الإسلام بالإرهاب والعنف المسلح، إضافة إلى تورُّطها في قضايا تجسُّس أخرى على المجتمع المسلم في الولايات المتحدة.
ووفق كير التي استعانت بمكتبَي تحقيقات ومحاماة خاصَّين للتحقق من حادثة التجسس، فإن منظمة الكراهية التي عمِل إقبال لصالحها لها ارتباطات وثيقة بإسرائيل، إذ قامت بتزويد مكتب رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو بمعلومات حول أنشطة مسلمي الولايات المتحدة ومؤسساتهم، كما تلقّت تمويلاً من منظمات صهيونية أمريكية وأخرى داعمة لإسرائيل.
لا تبدو هذه الحادثة فريدة في سياق صناعة الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة، فطالما ارتبط اسم دولة الاحتلال وداعميها بتأجيج الإسلاموفوبيا ومؤسساتها لتتجاوز مجرد مشاعر النفور والكراهية تجاه "الآخَر"، نحو استراتيجيات الوصم والتحريض والدعوة إلى القمع والاستئصال، ولم تكن هذه حادثة الاختراق أو التجسس الوحيدة التي تتورط بها مؤسسات وشخصيات تدعو إلى كراهية الإسلام ولها ارتباطات مشبوهة مع دولة الاحتلال.
في عام 2011 نشر مركز التقدم الأمريكي (CAP) نتائج دراسة قام بها لتتبُّع الأموال والمؤسسات التي تغذّي المعلومات والأخبار المضللة الموجَّهة ضد الإسلام، جاء فيها أن المركز تَوصَّل إلى "شبكة ضيقة من سبع شخصيات وثماني مؤسسات تموّل وتنفّذ حملات دعائية لكراهية الإسلام"، وأن "ارتباط هذه الهيئات بإسرائيل واضح ومتصاعد زمنيّاً".
وقد أوردت ورقة بحثية نشرتها الدورية الأمريكية التابعة لجامعة جونز هوبكنز عام 2015 أن قرابة 70% من تمويل المؤسسات الأمريكية المعادية للإسلام يأتي من هيئات ومنظمات صهيونية أمريكية، أو داعمة لإسرائيل ولسياسات الاستيطان في الضفة والقدس.
ويمكننا القول إن رغبة إسرائيل وداعميها في تأجيج الإسلاموفوبيا والعداء للإسلام تكمن في جذور العلاقة المرتبكة ما بين اليهودية والصهيونية من جهة، والمجتمعات الغربية من جهة أخرى، ففي حين كانت الحضارة الغربية في مرحلة ما بعد النهضة وتصاعد المشاعر القومية التي مهدت لميلاد الدولة الحديثة، تنظر إلى التكتلات اليهودية في أوروبا كنقيض للتجانس القومي والديني، نجحت الحركة الصهيونية واللوبيات اليهودية في أوروبا والولايات المتحدة بإعادة تعريف العلاقة على أساس الاندماج والذوبان في الثقافة الغربية لا التناقض معها، مستفيدة من عقدة الهولوكوست. فبعد عقود قليلة من المحرقة، صارت القطيعة مع الإرث النازي تتطلب ليس احتضان اليهود كضحايا فحسب بل اعتبارهم مكوناً أصيلاً من الحضارة والتاريخ والثقافة الغربية.
لكنّ هذه المكانة المستحدثة وغير الأصيلة، بقيت تُلِحّ على الوعي الصهيوني من التركيز على عدوّ آخر تشترك في كراهيته مع قرنائها الغربيين، ويصبح هدفاً جديداً لمشاعر الكراهية والازدراء، وتتوجه إليه نزعات النبذ والاستئصال، فلا يبقى المقعد شاغراً ومهدّداً لمكانتها من جديد، وتبرهن في ذات الوقت على انصهارها مع الغرب بالتوكيد على عدو واحد مشترك. ولأن مشاعر النفور من الإسلام موجودة أصلاً في فلسفة الاستشراق والتفوق الأبيض والنفور من الآخر المختلف، وجدت هذه الجهود بيئة خصبة.
والملاحظ هنا أن الإسلاموفوبيا لم تعد مجرد ميول ومشاعر ريبة أو خوف أو عدم انسجام مع الآخر، إنما أصبحت صناعة تُنفَق من أجلها الأموال وجهود اللوبيات والمؤسسات المستفيدة من إدامة هذا العداء واستثماره سياسياً، وعلى رأسها تلك المرتبطة بإسرائيل.
فإضافة إلى ما سبق، تستفيد دولة الاحتلال من إبقاء حالة العداء للإسلام والمسلمين حيَّة في الغرب من أجل تحييد قوة وتأثير اللوبيات والمنظمات المسلمة على صناع القرار والمجتمع المدني في الغرب.
إذ إن اللوبيات المسلمة بطبيعة الحال تحشد شعبياً للتضامن مع فلسطين وفضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي، كما تحاول التأثير في صناع القرار لتقويض سياسات الدعم المطلق لإسرائيل، لذا تعمد ماكينة الإسلاموفوبيا إلى شَغْل هذه المؤسسات بالخطاب الدفاعي الذي ينفي صفات التطرف والإرهاب، وذلك على حساب الانشغال بقضايا المناصرة والدعم لفلسطين، أو حتى قضايا الحقوق المدنية لمسلمي الغرب وتطوير عملهم المؤسسي ومراكمة تأثيرهم وإنجازاتهم.
تدرك ماكينة صناعة الإسلاموفوبيا أن فبركة أخبار كاذبة لوصم شخصيات أو مؤسسات مسلمة بدعم الإرهاب، له تأثير الفزاعة التي تُرهب الناس من الاقتراب من هذه المؤسسات أو التعاون معها ولو ثبت كذب هذه الأخبار وزيفها. وهذا تماماً ما عبّر عنه صراحةً أحد أبرز صنّاع الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة، دانييل بايبس، حين اعتبر أن ازدياد مكانة وحظوة الأمريكيين المسلمين يعني بالضرورة ازدياد الخطر على إسرائيل.
ومن الأهداف التي تسعى ماكينة الإسلاموفوبيا لتحقيقها أيضا دعم الرواية الإسرائيلية ضدّ الحق الفلسطيني؛ إذ إن كراهية الإسلام ووصم المسلمين بالإرهاب يقوّيان يد الاحتلال في كتم الأصوات الدولية المندّدة بقمع وقتل الفلسطينيين، وتجريدهم من حقهم الذي يكفله القانون الدولي بالمقاومة الشعبية والمسلحة. فمن خلال ربط الإسلام والمسلمين بالعنف، وبالتالي وصم الفلسطينيين بذلك، تَعمَد إسرائيل إلى إسدال ثوب الحرب على الإرهاب على حروبها وجرائمها في الأراضي الفلسطينية المحتلَّة، وتخلق صوراً زائفة في الوعي الغربي بأنها على مركب واحد معهم في محاربة التطرف.
وبنفس المنطق تحشد إسرائيل ولوبياتها وحلفاؤها للتخويف من أي حراك اجتماعي أو سياسي على حدود إسرائيل، بحجة إغلاق الباب أمام فرص التحول السياسي الذي قد يجلب إسلاميين متطرفين إلى الحكم، وهذا قد يفسّر كثيراً من المواقف الدولية المتخاذلة عن دعم مطالبات الحرية في العالم العربي، رغم البلاغة الغربية المنادية بالديمقراطية.
وحيث إن الصهيونية تسعى لاحتكار تمثيل اليهودية في العالم، التي صارت جزءاً أصيلاً من الثقافة الأنغلوساكسونية، فهي اليوم تقدّم نفسها كلاعب هامّ في الصراع الحضاري بين الشرق والغرب ضمن نظرية صفرية للصراع، تعمد من خلالها إلى وصم الشرق وهويته الإسلامية بكل نقيصة، تأكيداً للصورة المراد تعزيزها حول إسرائيل كنقطة مضيئة وسط صحراء من الظلام والجهل، وقاعدة غربية في هذه المنطقة يجب دعمها عسكرياً وسياسياً وثقافياً.
وخلف هذه الدوافع التي تغذّيها رغبة إسرائيل في التفوق عبر الطعن في خصومها ووصمهم وتشويههم، تكمن مفارقة ذات دلالة، تتجلى بتبنّي الصهيونية وداعمي إسرائيل لمقولات التنميط والازدراء والرغبة في الاستئصال ذاتها التي تعرضت لها الأقليات اليهودية في أوروبا قبل قرن من الزمان، فهي اليوم توظّفها ضدّ المسلمين في الغرب، وتموّل استراتيجيات الكراهية والعداء ضدّهم، كأن التاريخ هنا يعيد نفسه، لكن هذه المرة مع الاستبدال باسم الضحية وهويته، فتتحول معاداة السامية وكراهية اليهود إلى الإسلاموفوبيا وكراهية ومعاداة الإسلام والمسلمين، وهنا يجب على عقلاء العالم أن يبرهنوا جدّيّتهم في رفض ومحاربة كلا الشكلين من أشكال العنصرية والعداء على وجه السواء.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.