هذا التقدم أثار ذعر قوى إقليمية ودولية، باتت تحسّ، أن مشروع التنمية والتطوير التركي يشكّل منافساً محتمَلاً.
وكي تبدو اللوحة أكثر وضوحاً، فإن السياسة الخارجية التركية، تجد نفسها محكومة بموقعها الجيو-استراتيجي، فهي تتوسط العالم القديم بقارَّاته الثلاث آسيا وأوربا وإفريقيا، إذ إنها تطلّ على البحر الأبيض المتوسط، الذي تتشاطأ فيه مع دولٍ كثيرة، وتطلّ كذلك على البحر الأسود، وبحر مرمرة، وبحر إيجة، وهي في الآن ذاته وريثة إمبراطورية دامت قرابة أربعة قرون.
إن السياسة التركية الحالية التي انطلقت في عهد حزب العدالة والتنمية، أخذت منحى "صفر مشكلات"، أي إذابة كل الصراعات والاختلافات السياسية الإقليمية والدولية، من أجل التفرغ لاندفاعة التنمية والتطوير التركيين، لكنّ "صفر مشكلات" لا يمكن أن تستقيم كما أراد لها مفكرو النهضة الحديثة في تركيا، فهذه النهضة تنزع نحو استقلالية تركيا، سيما بعد سقوط المنظومة الاشتراكية السوفييتية، هذا الاستقلال يفترض تغييراً في بنية العلاقات التركية الإقليمية والدولية السابقة.
إقليمياً، تواجه السياسة الخارجية التركية أوضاعاً مختلفة، منها الخلاف التركي اليوناني، الذي يعود إلى انفصال الجزء الشمالي من قبرص، وقيام جمهورية القبارصة الأتراك، هذا الخلاف لا يزال يعكّر العلاقات اليونانية التركية، وهو مجال جاذب لقوى دولية، لا تريد أن تصفو العلاقات بين البلدين، لغاية استنزاف تركيا. ولكن تركيا تمارس سياسة حازمة ومرنة في الآن ذاته مع اليونان ومن يحرّضها من دول أوروبا، فهي قوية عسكرياً، ولكنها تستخدم قوتها بالوقت والظرف المؤاتيين، وهذا دليل مرونة استراتيجية.
إن ثورات الربيع العربي أعادت حسابات سياسة "صفر مشكلات" لدى تركيا، فكيف تستقيم هذه السياسة والنار قرب حدودها، ونقصد الصراع في سوريا، إثر تفجُّر ثورتها عام 2011؟ الصراع بين قوى الثورة السورية والنظام السوري، لم يأخذ شكله السياسي فحسب، بل أخذ شكله الأمني والعسكري، بعد أن زجّ النظام بقوات جيشه ضد شعبه الثائر، واستدعى هذا تطورات سورية داخلية أخذت منحىً جديداً هو منحى تسلُّح الثورة.
الصراع السوري لم يبق صراعاً داخلياً محضاً، فالثورة السورية أحدثت مخاوف كبرى لدى دول إقليمية مختلفة، منها دول الخليج العربي، وإيران. هذه الدول، وجدت نفسها في هذا الموقع أو ذاك، تبعاً لمصالحها وأهدافها، هذه المخاوف انتقلت إلى تركيا، بعد قيام مليشيا PKK بالانخراط في الصراع السوري من بوابة ذراعه السورية PYD، وتشكيله تهيداً للأمن القومي التركي.
الصراع السوري ألغى سياسة "صفر مشكلات" لدى تركيا، مما اضطرها إلى محاولة إيجاد حلٍّ سلمي في بداية الثورة، لكنّ النظام رفض الحلول السلمية، وهذا أمر شكّل قاعدة للتدخل في الصراع لمنع تداعياته على الدولة التركية من جهة، وشكّل قاعدة لنصرة الشعب السوري، الذي تمّ تهجير الملايين منه بسبب القصف وعمليات القتل والاعتقال والتدمير.
هذا الأمر حدث في ليبيا بصورة أخرى، إذ أراد خليفة حفتر، وهو عسكري ليبي سابق مطرود من الجيش الليبي، أن يركب موجة الثورة المضادة بمساعدات إقليمية ودولية معادية للثورة الليبية، فحاول القضاء على قوى الثورة في الغرب الليبي، مما جعل الأتراك يدركون خطر هذه الخطوة، ويقفون إلى جانب الحكومة المعترف بها دولياً، ويقومون بدعمها لوجستياً.
الأمر الثالث الذي تواجهه السياسة الخارجية التركية، هو محاولة بيان أن التنقيب عن البترول في شواطئ المتوسط الشرقية، قرب جمهورية شمال قبرص، أثار حفيظة اليونانيين وبعض دول الغرب الأوربي، فهؤلاء لا يريدون لتركيا أن تحصل على الطاقة البترولية والغاز الطبيعي، لأن الحصول عليه يزيد تسارع النمو الاقتصادي التركي، وهو سينعكس بعد ذلك قوة تنمية اقتصادية وسياسية وعسكرية، لا يريد الغرب وأعداء تركيا، أن يحصل الأتراك عليها، لأسباب، أهمها اقتصادي تنافسي، وصناعي عسكري متطور.
الأمر الرابع، وهو أمرٌ يجعل الدور التركي في منطقة أوراسيا دوراً حاسماً ومؤثراً، هو نصرة تركيا لأذربيجان في حرب تحريرها لمنطقة قره باغ المحتلة منذ عام 1992 من قبل أرمينيا، وهذا الانتصار الأذربيجاني سيغيّر معادلات التوازن العسكري والسياسي في تلك المنطقة، ويساعد تركيا على أخذ دورها وفقاً لقدراتها وإمكانياتها الاقتصادية والعسكرية.
أمام هذه اللوحة المتعددة السياسات، تجد تركيا نفسها مضطرة إلى استخدام أعلى درجة من المرونة السياسية والدبلوماسية، وهذه المرونة ليست ترفاً سياسياً، بل ضرورة تاريخية، وهو أمرٌ يحقّق أهدافاً متعددةً في آن واحد، ويجنّب تركيا الانزلاق في نزاعات جانبية، قد تتحول نتيجة مخططات أعداء تركيا إلى نزاعات رئيسية، تعمل على استنزاف طاقة وقوة اندفاعة التنمية التركية.
لهذا نجد مرونة في الموقف التركي من إيران، سواء موقفها السابق المؤيد لبرنامج إيران النووي السلمي، أو حيادها في الحرب العراقية-الإيرانية، وحاجتها إلى استيراد النفط والغاز الإيرانيين، رغم الحصار الأمريكي على نظام طهران.
فتركيا يجمعها مع إيران حدود يتمّ عبرها التبادل التجاري، كذلك فالدولتان متفقتان على رفض قيام أي دولة كردية في أي جزء يريد الأكراد قيامها فيه، سواء في شمالي العراق أو جنوب شرق تركيا، أو في شمال غرب إيران، أو في إقليم الجزيرة والفرات السوري.
إن وجود إيران في سوريا يزعج تركيا، سيما وأن الإيرانيين يريدون قيام الهلال الشيعي، وهو بالمحصلة مشروع سياسي ضد مصالح الدولة التركية في جوارها الحيوي العربي، لهذا تتسم السياسة التركية حيال هذه الدولة بمرونة عالية رغم حجم التناقضات بينهما، فالأتراك لا يريدون الاصطدام المباشر مع الإيرانيين، لأن هذا التصادم سيضرّهم ويخدم أعداءهم.
هذا الأمر يمكن قياسه على العلاقات الروسية التركية، فالذي يجمع بين تركيا وروسيا هو مربعات مصالح مشتركة، منها تمرير الغاز الروسي نحو أوروبا عبر خطّ السيل التركي، ومنها استفادة تركيا من التكنولوجيا الروسية العسكرية في موازنة دفاعاتها بمنظومة S-400، وعدم ترك هذه الدفاعات رهن تحكُّم الدول الغربية، التي تريد بقاء تركيا تحت عباءة مصالحها الاستراتيجية.
أما العلاقات الأمريكية التركية فهي علاقات متذبذبة، رغم أنها ذات طابع استراتيجي لكليهما، فالأمريكان لا يريدون خروج تركيا من الفلك الأمريكي، سيما وأن سياسات تركيا منذ عام 1952 كانت سياسات تدور آنذاك في هذا الفلك، وقد ظهرت عبر مشاريع ملء الفراغ بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الأمريكيين لا يريدون أن تقوم تركيا بتأسيس دورها السياسي والاقتصادي والعسكري خارج هيمنتهم، وتحديداً في مرحلة نهضتها الجديدة الكبرى.
هذا الأمر يتقارب بنسبة ما مع موقف أوروبا من تطوُّر وحداثة تركيا الجديدة، فبعد محاولات للانضمام إلى الاتحاد الأوربي، اكتشف الأتراك أن أوروبا لم تتخلص من عقدتها الدينية، إذ قال مسؤولون فرنسيون وهولنديون علانية: "لا نريد أن تصير أوربا مسلمة".
أما إسرائيل فهي في ضفة أخرى، فهي مشروع غربي صهيوني في المنطقة، غايته الهيمنة والسيطرة على منطقة من أغنى مناطق العالم وأكثرها حيوية. مشروع إسرائيل يتناقض في المدى الاستراتيجي مع النهضة التركية وتنميتها الكبرى، فإسرائيل تحاول أن تهيمن على الجوار الحيوي الإسلامي العربي، الذي تركيا جزء منه تاريخياً، وهذا يعني عدم وجود مربعات تقاطع حقيقية بين المشروعين، ولهذا اتخذت السياسة التركية دور من يحاصر السياسة الإسرائيلية في المنطقة، ولكن هذه السياسة بحاجة إلى أدوات ووسائل أوسع وأكبر مما تستخدمه تركيا في المرحلة الحالية.
بقي أن نقول إن مرونة السياسة الخارجية التركية، يمكنها أن تزيد حضورها بازدياد مساحة تعاوُنها مع أوسع قوى إقليمية ودولية، دون مساس بجوهر تنميتها الكبرى، التي ستضعها في مرتبة اقتصادية وسياسية متقدمة على الصعيد العالمي، وهذا متاح أمام مرونة وخبرة ورثتها السياسة الخارجية التركية من تاريخها الذي يبدو أنه لا يزال حيّاً في شرايينها.