تدرس اليابان، حسب وزير خارجيتها يوشيماسا هاياشي، فتح مكتب ارتباط لحلف شمال الأطلسي على أراضيها وهي الخطوة الأولى من نوعها في منطقة شرق آسيا. يعدّ هذا التوجه أحد تجليات الحرب الروسية على أوكرانيا والتي منذ انطلاقتها تعمل على إحداث تحولات في النظم الأمنية والجيوسياسية في العالم، كان أبرزها تخلي كلٍّ من السويد وفنلندا عن حيادهما المعهود والانضمام إلى الناتو، هذا فضلاً عن مستويات التسلح غير المسبوقة لبعض الدول مثل ألمانيا.
تعدُّ خطوة اليابان هذه حلقة جديدة في مسلسل هذه التحولات التي من شأنها أن تضيف مزيداً من التوتر على منطقة ملتهبة بالأصل بسبب التنافس المحتدم بين الصين من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى.
التقييمات الأولى في العواصم العالمية كافة أن ما يحدث في جنوب شرق أوروبا من حرب واسعة بين روسيا وأوكرانيا التي يساندها الغرب إلى حدٍّ كبير قد فرضت حالة من عدم الاستقرار، سادت العديد من الأقاليم حول العالم وتحديداً في منطقة المحيط الهادئ التي تشهد بدورها تنافساً محموماً على النفوذ والهيمنة بين القوة الصاعدة من جهة وهي الصين، وقوة الأمر الواقع وهي الولايات المتحدة. لذلك فإن دول شرق آسيا التي تقف على النقيض من محور الصين-روسيا ستجد نفسها في موقف المضطر لتعضيد التعاون مع التحالفات الغربية مثل الناتو لتعزيز أمنها القومي.
بطبيعة الحال فإن فتح مكتب ارتباط لا يعني انضماماً رسمياً في الحلف، ولكنه يرسل برسالة واضحة اللهجة أن دول المحيط الهادئ وشرق آسيا الحليفة للمعسكر الغربي باتت تستشعر الخطر، وأن مزيداً من الاندماج في المنظومات الأمنية الغربية قد يشكل إحدى الضمات المحورية للحفاظ على الاستقرار. بطبيعة الحال هناك علامات استفهام كبيرة عن صدقية هذا النهج، فهنا من يرى على النقيض أن مزيداً من التقارب مع الغرب قد يستفز الصين أكثر، وبالتالي يشعل المنطقة كلها.
بشكل عام، تصبُّ الخطوة اليابانية هذه في المسار الاستراتيجي الذي يسلكه حلف الناتو منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وغياب الكتلة الشرقية عن مسرح الأحداث الدولية. وقد أخذ هذا المسار صفة "التوجّه شرقاً" والتوسع في المناطق التي كانت سابقاً تدور في الفلك الشيوعي مثل دول شرق وجنوب شرق أوروبا.
حدثت الموجة الأولى من الانضمام عام 1999 وشملت كلاً من جمهورية التشيك، وهنغاريا، وبولندا. بالتحديد كان انضمام بولندا لحلف النانو مؤشراً إلى تحول استراتيجي بارز. فقد كانت وارسو عاصمة بولندا المدينة التي شهدت تشكّل الحلف المضاد للناتو، ألا وهو حلف وارسو، إذ باتت المدينة علماً من أعلام المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة.
على أي حال، لا تعتبر علاقة اليابان بالمعسكر الغربي بالأمر الجديد، ولكن مسار التقارب يتطور كلما زادت المخاطر الأمنية، وبدلاً من الاعتماد على الولايات المتحدة كقوة منفردة، تتطلّع اليابان إلى تمتين علاقتها بالأحلاف.
تعدّ اليابان إحدى الركائز الأساسية للاستراتيجية الأمريكية العالمية. فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان، أصبحت طوكيو إحدى الدعامات الرئيسة في سياسة الولايات المتحدة العالمية لاحتواء المدّ الشيوعي. وتحت بنود المعاهدة الأمنية الأمريكية اليابانية الموقعة عام 1960، استمرّ الوجود العسكري الأمريكي على الجزيرة اليابانية حتى الوقت الحاضر، إذ يأخذ أشكالاً مختلفة بناء على تطور الأحداث. فقد كان التحالف العسكري يهدف في البداية إلى نزع السلاح من اليابان وضمان أمنها، وقد تطور إلى شراكة تتصدى لتحديات الأمن الإقليمي وتعزيز السلام والاستقرار.
يتمركز في اليابان قرابة 55 ألف جندي أمريكي، وتستضيف البلاد على أراضيها العديد من القواعد الأمريكية الأهم في العالم، مثل قاعدة يوكوسوكا البحرية التي تقع في محافظة كاناغاوا، وتعدّ واحدة من أكبر المنشآت البحرية الأمريكية في الخارج، وهي بمنزلة المنفذ الرئيس للأسطول الأمريكي السابع. وقاعدة كادينا الجوية التي تقع في جزيرة أوكيناوا، وتعدّ أكبر منشأة للقوات الجوية الأمريكية في منطقة المحيط الهادئ، وتستضيف مجموعة متنوعة من الطائرات ووحدات الدعم.
مجدداً، لا تعني استراتيجية التوجّه شرقاً التي يتبناها الناتو بالضرورة تحقيق مزيدٍ من الأمن. فوفق بعض كبار خبراء العلاقات الدولية مثل جو ميرشايمر، فإن عقيدة الهيمنة الليبرالية التي تبنتها الولايات المتحدة بعد سقوط جدار برلين وتمثل بتوسيع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في أوروبا الشرقية أدت إلى استفزاز روسيا، وهو ما أفضى في نهاية المطاف إلى اشتعال الحرب في أوكرانيا. فمن بين الأسباب العديدة التي ساقتها موسكو لتسويغ حربها على أوكرانيا كان هناك سبب جوهري متعلق بمنع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وبالتالي تهديد الأمن القومي الروسي في العمق.
الأمر قابل للتكرار في منطقة جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ. فحدّة التنافس بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والصين من جهة أخرى أخذ أشكالاً تصاعدية بشكل مستمر. فالتوتر على بحر الصين الجنوبي على أشده، وقد دخلت تايوان على خطّ التصعيد، وباتت هناك تهديدات صينية واضحة بإعادة ضمّ الجزيرة إلى البر القاري للصين، هذا فضلاً عن الحرب التجارية إلى الحرب التكنولوجية، إذ تحاول الولايات المتحدة خنق التقدم التكنولوجي للصين فرض حصار عليها، يحرمها من أشباه الموصلات على سبيل المثال.
تعزّز الولايات المتحدة أيضاً وجودها العسكري من خلال بناء الأحلاف على شاكلة حلف أوكوس الذي يضم إضافة إلى الولايات المتحدة كلاً من المملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا. هذا فضلاً عن التدريبات العسكرية المشتركة الدائمة في المنطقة والرفض الأمريكي الصارم لضم الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي إلى سيادة الصين رسمياً.
ما يزيد من حدة التوتر أن قمة الناتو القادمة ستعقد في اليابان وتحديداً في مدينة هيروشيما بما تحمل من معانٍ ورمزيات مثقلة بالدلالة في ضوء التجربة التي عاشتها إبان الحرب العالمية الأولى كأول مدينة في العالم تختبر القنبلة النووية.
في بيئة تعاني عدم الاستقرار لا يعني بناء الأحلاف أو الانضمام إليها بالضرورة مزيداً من الأمن. لقد أثبتت استراتيجية الهيمنة الليبرالية للغرب عدم نجاعتها، وتسببت باستفزاز روسيا واشتعال الحروب. يجب ألا يتكرر الأمر ذاته مع الصين نظراً إلى خطورة الموقف.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.