ترتبط الحقبة الكونية الجديدة من العنف في عصر العولمة بالهُوية، فقد باتت تقاطعات العنف والهُوية سمة مميزة للإرهاب المعاصر في ظل تنامي سياسات الهُوية وانحسار منظورات التعددية الثقافية، حيث لا تنفصل الهجمات المنسَّقة على الكنائس في سريلانكا عن الهجوم الدامي على المساجد في نيوزيلندا، فخطابات الهويات المنغلقة على الذات حلّت مكان سياسات الاعتراف بالآخر، وأصبحت ألعاب الهُوية سلعة رائجة ورابحة في سوق التنافس الانتخابي، وغدت المطابقة فضيلة والاختلاف رذيلة.
على وقع تقاطع الهُوية والعنف وقعت 7 هجمات إرهابية منسقة صباح الأحد 21 أبريل/نيسان 2019، استهدفت 3 كنائس و 4 فنادق في كولومبو عاصمة سريلانكا، وأسفرت عن مقتل 321 شخصاً من بينهم 45 طفلاً، وإصابة 521 جريحاً، حسب المصادر الرسمية، وقد أظهرت التحقيقات الأولية بعد يومين وفق ما أعلن نائب وزير الدفاع، أنها جاءت "ردّاً انتقاميّاً على هجوم كرايستشيرتش في نيوزيلندا". وقال متحدث باسم الحكومة إن التفجيرات نُفّذَت بمساعدة شبكة دولية.
جاءت التصريحات الرسمية السريلانكية حول وجود شبكة دولية دون تسميتها، تقف وراء الهجمات، وربطها بهجوم نيوزيلندا بعد يومين من التخبُّط والتصريحات المتناقضة، وهي سمات مميزة لمعظم دول العالم الثالث في التعامل مع الحوادث الإرهابية، رغم اعتراف السلطات بأن الشرطة كانت لديها معلومات مسبقة عن احتمال تنفيذ هجمات "انتحارية" تستهدف كنائس، إذ سجّلَت إخفاقاً مركَّباً حال دون التحرُّك لدى صدور التقارير قبل وقوع الهجمات.
إن هجمات سريلانكا تشير إلى تنامي جاذبية العنف المرتكز على الهُوية وقدرته على استقطاب المقاتلين.
وقد برز التخبُّط مع وضوح بصمة تنظيم الدولة (داعش) عند معظم الخبراء، وقالت مصادر في المخابرات الأميركية مبكّراً إن الهجمات تحمل بعض السمات المميزة لتنظيم "داعش" الإرهابي، لكنها التزمت الحذر في تأكيد ذلك لأن التنظيم لم يعلن مسؤوليته بعد.
إحدى أكثر الروايات ركاكة تمثلت بتوجيه أصابع الاتهام في اليوم التالي للهجمات إلى جهة إسلامية محلية تُدعَى "جماعة التوحيد الوطنية"، مع أن السلطات عادت ونفت اتهامها رسميّاً لتلك الجماعة بالمسؤولية، إذ لم تكُن هذه المجموعة أكثر من مجموعة دعوية، وأقصى أعمالها أن بعض أنصارها قام بتخريب تماثيل بوذية في كانون أول/ديسمبر2018، إذ يصعب تصديق قدرتها على تنفيذ اعتداءات انتحارية ضخمة ومعقدة، وقد زاد حالةَ الغموض والتخبُّط المحيط بالجماعة الخلطُ بينها وبين جماعة هندية تُدعَى جماعة "توحيد تاميل نادو".
رواية الشبكة الدولية والانتقام ردّاً على هجوم نيوزيلندا، ثم اعتقال 40 مشتبَهاً به على خلفية التفجيرات، من بينهم مواطن سوري، كانت إشارات دالة على ضلوع تنظيم الدولة الإسلامية بتنفيذ الهجمات.
فعقب صدور الرواية الرسمية تَبَنَّى التنظيم الهجمات في 23 أبريل/نيسان 2019، وقالت وكالة "أعماق" التابعة للتنظيم إن "منفذي الهجوم الذي استهدف رعايا دول التحالف والنصارى في سريلانكا أول أمس من مقاتلي الدولة الإسلامية".
ثم قدم تفصيلات دقيقة تضمنت شريطاً مصوَّراً لثمانية أشخاص يقدّمون البيعة لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، وقالت الوكالة، إن الهجمات استهدفت بشكل رئيس، "كنائس النصارى وفنادق يقيم فيها أجانب، وبلغ عددها 7 هجمات استشهادية وعبوات ناسفة عدة".
إن هجمات سريلانكا تشير إلى تنامي جاذبية العنف المرتكز على الهُوية وقدرته على استقطاب المقاتلين، ويُعتبر تنظيم الدولة الإسلامية المؤسس "لبرادايم" العنف الهوياتي في الحالة الإسلامية، بخلاف "التنظيمات الجهادية" السابقة.
لا تزال فروع تنظيم الدولة وولاياته الخارجية تتمتع بالقدرة على تنفيذ هجمات كبيرة في بلدان عربية وإسلامية مختلفة.
كما تؤكّد هذه الهجمات المركبة والمعقدة أن التنظيم لا يزال يتمتع بقدرة على التكيُّف مع التطورات، فطرد التنظيم من مناطق سيطرته الحضرية المدينية في العراق وسوريا، ونهاية مشروع "الخلافة"، فرض حالة "المنظَّمة" اللا مركزية بالاعتماد على نهج حرب العصابات.
ولا تزال فروع التنظيم وولاياته الخارجية تتمتع بالقدرة على تنفيذ هجمات كبيرة في بلدان عربية وإسلامية مختلفة، وتشكّل شبكاته ومجاميعه المنسَّقة وخلاياه الفردية النائمة و "ذئابه المنفردة" خطراً على أمريكا وأوروبا.
لم يخترع تنظيم "داعش" تقاطعات العنف والهُوية والإرهاب، فهي نتاج سياسات الهُوية في حقبة العولمة، لكنه دفعها إلى مجالات قصوى، وقد انشغلت ماري كالدور في كتابها "الحروب الجديدة والحروب القديمة: تنظيم العنف في حقبة الكونية"، بمنطق الحروب الجديدة التي تستند إلى الهُوية التي برزت في عصر العولمة بعد نهاية الحرب الباردة.
كما انشغل أمارتيا كومار صن في كتابه "الهويَّة والعنف: وهم المصير الحتمي" بذات الموضوع، إذ تُستخدم الهُوية في "الحروب الجديدة" وسيلةً من قبل المقاولين السياسيين للوصول إلى السلطة.
والمقصود بالهُوية هنا وفق تعريف كالدور وكومار لها، مشترَك تصحّ في تعريفه أكثرَ كلمةُ "الثقافة"، إذ ينتمي من يحملون هُوية مشتركة إلى ثقافة معيَّنة، وليسوا بالضرورة من أصول عرقية واحدة. وقد يكون القاسم المشترك إثنيّاً أو دينيّاً أو مذهبيّاً أو لُغويّاً، أو أي شيء آخر يستطيع السياسيون استثماره.
لم يخترع تنظيم "داعش" تقاطعات العنف والهُوية والإرهاب فهي نتاج سياسات الهُوية في حقبة العولمة لكنه دفعها إلى مجالات قصوى.
استخدام الهُوية للتعبئة السياسية بغية الوصول إلى السلطة حسب كالدور وكومار يقوم على تجميع الناس تحت شعارات ولافتات تتيح فرز بعضهم عن بعض، إذ لا تُعنَى السياسة على قاعدة الهُوية باكتساب "قلوب وعقول" الناس، بل تتعاطى مع من تصنّفه كمختلف بالتخلُّص منه، من خلال القتل، أو الفرز السكاني والتهجير والتطهير، فهي سياسة إقصائية، إذ تتناقض السياسة المبنية على الهُوية في هذا مع أشكال التعبئة السابقة.
إن سريلانكا ذات الغالبية البوذية أحد تجسدات السياسة المبنية على الهُوية، وهي تضم أقلية كاثوليكية من 1.2 مليون شخص من أصل عدد إجمالي للسكان قدره 21 مليون نسمة. ويشكّل البوذيون سبعين بالمئة من السكان، إلى جانب 12 بالمئة من الهندوس و 10بالمئة من المسلمين و 8 بالمئة من المسيحيين.
فقد شهدت البلاد في الفترة بين عامي 1983و 2009 حرباً أهلية سعت من خلالها جماعات انفصالية تاميلية "نمور التاميل" في شمال وشرق الجزيرة إلى الانسلاخ عن الحكومة التي تهيمن عليها أغلبية سينهالية، وانتهت الحرب بانتصار الحكومة، فهذه الجزيرة تحمل تاريخاً طويلاً من الاقتتال العرقي والديني.
وخلال الحرب وقعت أسوأ اعمال عنف ضدّ المسلمين في سريلانكا على يد متمردي التاميل، وبعد أن وضعت الحرب الدموية أوزارها بهزيمة المتمردين عام 2009، يبدو أن غضب الأغلبية البوذية وجد هدفاً جديداً في الأقلية المسلمة، فما بين عامَي 2012 و 2013، تم الإبلاغ عن أكثر من 350 هجوماً عنيفاً على المسلمين، وأكثر من 150 هجوماً على المسيحيين في سريلانكا، وكانت المساجد والكنائس هدفاً أساسيّاً لهذه الهجمات التي كانت نتيجة طبيعية لخطاب العنف والكراهية والتمييز الذي تبناه البوذيون، ولم يتحسن الوضع في السنوات اللاحقة.
وهي حالة تتكرر كمأساة في بورما، فعلى الرغم من كون البوذيين يمثلون أغلبية في البلدين، يتفق كثير من البوذيين على ضرورة اتحاد بلادهم وأن دينهم يواجه تهديداً. وقد خصَّصَت صحيفة "واشنطن بوست" إحدى افتتاحياتها للعنف الهوياتي البوذي في بورما، وقالت إن "السلطات التي هندست عملية تطهير عرقي ضد مسلمي الروهينغا حرفت انتباهها الآن ضدّ أقلية أخرى، وبدأت في عملية اضطهاد للمسيحيين في منطقة كاشين، قرب الحدود الشمالية من بورما، وهي عملية تدعمها المدفعيات والطائرات"، وحسب صحيفة "وول ستريت جورنال"، فإن العملية تقوم بها الوحدات ذاتها التي قامت بحرق القرى واغتصاب النساء في إقليم راكين، وأجبرت 680 ألفاً من مسلمي الروهينغا على الفرار عبر الحدود إلى بنغلاديش".
خلاصة القول أن ثمة موجة عالمية متصاعدة من الإرهاب والعنف على أساس الهُوية، إذ تتراجع سياسة الاعتراف والتعددية الثقافية، وتزدهر سياسة الهُوية، ومع ذلك فانّ العنف حسب حنا آرندت قد يُبرَّر لكنّه لن يحوز أبداً على مشروعيّته.
إذ لم يحدث قَطّ لحكومة أن وطّدت سلطتها على أساس أدوات العنف، ذلك أن السلطة هي قدرة جماعية تنبع من إرادة الجماعة على العيش معاً في ظلّ قوانين مدنية وتظلّ موجودة ما بقِيَت الجماعة، وتسقط كلّما تفتَّتَت الجماعة وانحلّت إلى طوائف متناحرة. فحين تنهزم القدرة الجماعية على الوجود معاً، ينتصر العنف وتسقط السلطة.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.