زعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 22 آذار/مارس الماضي أنه تَمكَّن من القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، وذلك عقب سيطرة قوات "بي واي جي" الكردية على آخر جيوب التنظيم في قرية "الباغوز" شرق نهر الفرات، وحصار مقاتليه في مساحة لا تتجاوز كيلومتراً مربعاً، مكتظة بآلاف النساء والأطفال.
ورغم طرد تنظيم الدولة من مناطق سيطرته الحضرية المدينية، فإن التنظيم لا يزال يتمتع بقدرة على التكيُّف مع التطورات. فنهاية المشروع السياسي للتنظيم وحكومته، تشير إلى نهاية مشروع "الدولة" ونظام "الخلافة"، والعودة إلى حالة "المنظمة" بالاعتماد على نهج حرب العصابات، وهو ما أكّده منسّق الدبلوماسية الأميركية لمكافحة الإرهاب "ناثان سيلز" في وصف طبيعة الحرب ضدّ تنظيم "الدولة" في مؤتمر دولي عُقد على مدى يومين في 27 و 28 شباط/فبراير 2018 في العاصمة الأمريكية واشنطن، ونظمته وزارة الخارجية الأميركية والإنتربول والمعهد الدولي للعدالة وسيادة القانون، حيث قال إن "التنظيم يتأقلم مع انتصاراتنا"، وأضاف: "أعتقد أن ما نراه هو أن تنظيم داعش يصبح لا مركزيّاً على نحو متزايد".
انتهت السيطرة المكانية الفعلية لداعش نهاية 2017 وانتهى مشروع "الخلافة" وحقبة الحكامة ودخل التنظيم في حالة المنظمة مع عملية إعادة الهيكلة.
لا يقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحيداً في زعمه القضاء على "إرهاب"، فمنذ أن دشَّنَت الولايات المتحدة الأمريكية سياسة "الحرب على الإرهاب" عقب هجمات تنظيم القاعدة على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001، كان الهدف المعلن يتمثَّل بالقضاء على تنظيم القاعدة وهزيمة الحركات الجهادية العالمية المساندة العابرة للحدود، وكان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن قد أعلن مرارًا هزيمة الإرهاب والقضاء عليه.
وقد بدا ذلك واضحاً مع تخبط قرارات الانسحاب من أفغانستان، وهو البلد الذي شهد أُولَى غزوات حرب الإرهاب نهاية 2001، واليوم تبدو عودة حركة طالبان وحلفائها من التنظيمات الجهادية والقاعدة مسألة وقت لا أكثر، كما أن نتائج غزو العراق 2003، تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب"، ثم قرار الانسحاب 2011 بدعوى القضاء على تنظيم "دولة العراق الإسلامية"، بدا كارثيّاً مع سرعة صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" وتمدُّده وسيطرته على مساحات واسعة في العراق وسوريا وإعلانه تأسيس دولة "الخلافة" في حزيران/يونيو 2014.
عندما أعلن ترامب الانسحاب من سوريا في 19 كانون الأول/ديسمبر 2018 علل قراره بهزيمة تنظيم الدولة، لكن مركز دراسات الحرب الأمريكي (ISW) نشر تقريراً في نفس اليوم قال فيه: "لم تهزم الولايات المتحدة وحلفاؤها داعش في العراق أو سوريا"، وأشار التقرير إلى أن جيوب التنظيم قادرة على لملمة نفسها مرة أخرى.
فآلاف من المقاتلين ما زالوا موجودين في مناطق متفرقة من البادية السورية والقرى، بالإضافة إلى وجود شبكات لهم من خلال طرق وأنفاق تمتدّ إلى أطراف المدن السورية أيضاً.
كما أن كبار مستشاري ترمب لمكافحة الإرهاب لا يشاركونه تفاؤله وزعمه، فالأدميرال جوزيف ماغواير، الذي صُدِّق أخيراً على تعيينه في منصب المدير الجديد لـ "المركز الوطني لمكافحة الإرهاب"، قال بداية العام الحالي إنه على الرغم من خسارة تنظيم "الدولة" معظم الأراضي التي كان يسيطر عليها، فإنه "لم يتمّ بعد تقليص قدرته على إطلاق تمرُّد جديد في سوريا والعراق، حيث مازال يحتفظ بشبكة عالمية بالشكل الكافي.
كان المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف الدولي ضدّ تنظيم "الدولة" بريت ماكغورك قد صرح قبل أسبوع فقط من قرار الانسحاب بالقول: إن "أحداً لم يعلن إنجاز المهمة"، الأمر الذي دفعه إلى الاستقالة احتجاجاً على قرار ترمب.
لا يعدو الحديث عن تحقيق نصر نهائي على تنظيم الدولة عن كونه دعاية سياسية كاذبة ففي العراق لا يزال التنظيم ينتشر في مساحات الفراغ الأمني والمناطق الهشة في محافظات عدة.
وقبل يوم من تغريدة ترامب التي أشار بموجبها إلى انتهاء المهمة العسكرية في سوريا، أكّد السفير جيمس جيفري، المستشار الخاصّ لوزير الخارجية الأمريكي لشؤون سوريا، ضرورة الحفاظ على وجود عسكري أمريكي في سوريا من أجل ضمان الهزيمة الدائمة لتنظيم "الدولة الإسلامية"، وهو ما يتوافق مع تقييمات الوكالات الحكومية الأمريكية، فحسب تقديرات البنتاغون ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، يتراوح عدد المقاتلين التابعين للتنظيم ما بين 20 و 30 ألف مقاتل، مشيرة إلى أن هذا العدد لا يشمل المقاتلين الموجودين في مغارات أفغانستان، أو أدغال النيجر ومالي، أو صحراء سيناء في مصر، أو المناطق الخارجة عن القانون في اليمن وليبيا ومناطق أخرى عدة للتنظيم فيها فروع.
لا يعدو الحديث عن تحقيق نصر نهائي على تنظيم الدولة عن كونه دعاية سياسية كاذبة، ففي العراق لا يزال التنظيم ينتشر في مساحات الفراغ الأمني والمناطق الهشة في محافظات عدة، ففي صلاح الدين نشاط واضح في مناطق مطيبيجة والمسحك ومكحول والعظيم وجزيرة سامراء وجزيرة الإسحاقي والثرثار وقرى شمال غرب بيجي والشرقاط، وبالقرب من جبال مكحول التي باتت أكثر الأماكن خطورة في محافظة صلاح الدين.
إضافة إلى المثلث الصحراوي الواقع جنوب نينوى وغرب صلاح الدين وشمال جزيرة راوة في الأنبار، وقد شنّ التنظيم بعد إعلان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عن هزيمة التنظيم في عام 2018، نحو 1200هجوم، وفي سوريا ينتشر التنظيم أيضاً في منطقة البادية الممتدة بين الأطراف الغربية لنهر الفرات، وحتى أطراف محافظة السويداء والقلمون الشرقي وريف دمشق.
تُعتبر منطقة الساحل والصحراء الإفريقية إحدى الجبهات التي تشهد تنامياً لحضور تنظيم الدولة و"الجماعات الجهادية".
رغم أن تنظيم الدولة تَعرَّض لانتكاسة كبيرة في العراق وسوريا، فإن خريطة نشاطه وانتشاره تتوسَّع في مناطق وبلدان عديدة، فالتنظيم يتمتع بحضورٍ كبير في أفغانستان، الأمر الذي دفع بالولايات المتحدة إلى التفاوض مع حركة طالبان. ولا يزال التنظيم يشنّ هجمات في شبه جزيرة سيناء المصرية، ويحافظ على قدرته التشغيلية في جنوب شرق آسيا، وكذلك وسط آسيا، وكذلك في اليمن، وتُعتبر القارة الإفريقية ساحة بديلة لتنظيم الدولة مع إصراره على تعدُّد الجبهات والملاذات.
تُعتبر منطقة الساحل والصحراء الإفريقية إحدى الجبهات التي تشهد تنامياً لحضور تنظيم الدولة و"الجماعات الجهادية"، وحسب تقرير أُعِدّ لمؤتمر ميونخ الأمني السنوي ونشرته "رويترز" في 8 شباط/فبراير 2019 فإن ثلاثة أرباع المعارك التي وقعت مع قوات الأمن الحكومية خلال 2018 بادرت بها هذه الجماعات.
ويشير التقرير الذي يستند إلى بيانات المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية إلى أن عدد القتلى نتيجة النشاط المسلح لهذه الجماعات زاد إلى 1082 بالمقارنة مع 2017، ومع كل الجهود المتعلقة بحرب الإرهاب، تبدو هذه حرباً يكسبها "الجهاديون" حسب تقرير للإيكونوميست في تموز/يوليو 2018 بعنوان "ساحة المعركة القادمة مع (الإرهاب) : القتال ضد (داعش) ينتقل إلى إفريقيا".
فقد ازداد عدد الحوادث العنيفة التي تتورط فيها "المجموعات الإرهابية" في إفريقيا بنسبة تزيد على 300 في المئة بين العامين 2010 و 2017، كما ارتفع عدد الدول الإفريقية التي تختبر نشاطاً متشدِّداً مستداماً بأكثر من الضعف لتصل إلى 12 دولة في نفس الفترة، وفقاً للمركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية، وهو جزء من وزارة الدفاع الأميركية، وتضمّ منطقة الصحراء والساحل خليطاً من الجماعات الجهادية، تدين بالولاء لتنظيم "القاعدة" أو تنظيم "الدولة" وتشمل هذه المجموعات حركة الشباب في الصومال، وبوكو حرام وفصائلها في نيجيريا، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين في مالي.
إحدى المسائل الجوهرية التي يتغافل عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلانه القضاء على تنظيم الدولة، هي الخلط بين المشروع السياسي للتنظيم كدولة، وحالة المنظمة، فقد انتهت السيطرة المكانية الفعلية لداعش نهاية 2017، وانتهى مشروع "الخلافة" وحقبة الحكامة، ودخل التنظيم في حالة المنظمة مع عملية إعادة الهيكلة التي أقرها البغدادي في خطابه في 28أيلول/سبتمبر 2017 بعنوان "وكفى بربك هادياً ونصيراً".
ما يفشل ترامب في إدراكه رفقة أصدقائه من الإمبرياليين والفاشيين وأقرانه من الدكتاتوريين والفاسدين أن القضاء على الآيديولوجيات لا يُنجَز بقصف الطائرات.
خلاصة القول أن إعلان الرئيس الأمريكي القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية لا تسنده الوقائع والحقائق، ويقع في إطار سياسات ما بعد الحقيقة، كإعادة إنتاج للكذب والزيف، فلا يزال تنظيم الدولة يعمل كمنظمة بفاعلية، ويتوافر على جاذبية آيديولوجية، وقدرة تمويلية، ويجد ملاذات عديدة وحواضن اجتماعية، ويستثمر التنظيم في ساحات متنوعة وفق مبدأ تعدُّد الملاذات، ذلك أن قوة التنظيم تنبع من أسباب موضوعية أكثر منها ذاتية.
فهو يمثِّل انعكاساً لفشل الدولة الوطنية وسوء الحوكمة وسيادة منظومة الفساد والاستبداد، فتنظيم "الدولة" في نهاية المطاف تعبير آيديولوجي لهذا الواقع الجديد، الذي شهد انقلاباً على ثورات الربيع العربي، ونتيجة تقاطع جملة من الشروط والعوامل بدءاً من الانتشار الكارثي للطائفية، مروراً بتفشِّي القمع المدمِّر في سوريا والعراق، وصولاً إلى صراع المصالح المحموم في الشرق الأوسط للقوى الإقليمية والعالمية المختلفة، ولعل ما يفشل ترامب في إدراكه، رفقة أصدقائه من الإمبرياليين والفاشيين وأقرانه من الدكتاتوريين والفاسدين، أن القضاء على الآيديولوجيات لا يُنجَز بقصف الطائرات.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.